رحلة الإسلام فالإيمان فالإحسان

رحلة الإسلام فالإيمان فالإحسان

إن الطريق إلى الله قائم على أركان ثلاثة: الإسلام، والإيمان، والإحسان. وقد فسّر النبي ﷺ دعائم الدين الثلاثة هذه فوصف «الإسلام» بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤدّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ»، وقال عن «الإيمان»: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَبلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ»، فيما عرّف أقوى وأعمق أركان الدين، «الإحسان»، قائلاً: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».[1] ويلخّص الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان هذه الأركان بقوله: «فالإسلام إطاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة».[2] فالإسلام هو ممارسات تعبّدية، والإيمان هو التصديق بالفكر الذي هو أساس تلك العبادات، وهما ركنا الدين المألوفان لدى كل المسلمين. أما الإحسان فهو حالة روحية خاصة يعيشها المسلم المؤمن حين ينعم الله عليه بكشوفات تطلعه على حقائق من عالم الروح لا يدركها من لم يصل إلى تلك الحالة. وبسبب هذه الكشوفات الروحية يصبح للعابد الواصل إلى مرتبة الإحسان وعياً دائماً بالله فيكون في حضور مستمر معه، فيعيش حقيقة أنه عز وجل موجود في كل مكان ولا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ (الحديد/4). ويعكس أحد الأذكار اليومية للطريقة الكَسْنَزانية حال الإحسان: «اللهُ حاضري، اللهُ ناظري، اللهُ شاهدٌ عَلَي؛ اللهُ مَعي، اللهُ مُعيني، وهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ مُحيط».[3]

ولنأخذ مثالاً يسهّل التمييز بين من جمع الإسلام والإيمان فقط وبين من أنعم الله عليه أيضاً بحال الإحسان. نعلم من القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة بأنه في السنة الثانية من هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة أذِنَ الله للمسلمين بالدفاع المسلَّح عن حقّهم الطبيعي في عبادته واتّباع الدين الذي اختاره لهم ضد الكفار الذين حاربوهم بكل وسيلة وأرادوا أن يحرموهم من حقّهم هذا: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج/39). وكان إسلام المقاتلين وإيمانهم سبباً في نصر الله لهم. لكننا نعلم أيضاً بأن أحد المظاهر الرئيسة لهذا النصر الإلهي التي حسمت المعارك المختلفة لصالح المجاهدين المسلمين في دفاعهم المسلّح ضد الظالمين هو دعم الله لهم بملائكة:

﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ (١٢٤) بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ (آل عمران/124-١٢٥).

﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ (الأنفال/٩).

﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ (الأنفال/12).

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الأحزاب/٩).

وبينما آمن كل المسلمين بوعد الله لهم بأن يمدّهم بملائكة، فقد كان منهم أيضاً من شاهد هذا التدخّل الملائكي. أي آمنوا كلّهم بتدخل عالم الروح في كفاحهم المسلح ضد من ظلمهم، لكن بعضهم فقط رأى بأمّ عينه هذا العون. فالفرق بين المسلم المؤمن وبين من جادَ عليه الله فوق إسلامه وإيمانه بمقام الإحسان هو كالفرق بين من آمن بنصر الله للمسلمين بالملائكة من غير أن يَرَهُم ومن كان إيمانه مَدعوماً برؤيته لهم وَهُم يتدخّلون في القتال. فمثل هذا القرب من عالم الروح هو الذي يجعل المسلم المؤمن يعبد الله كأنه يراه، كما قال النبي ﷺ. فالصوفي لا يتوقف عند الإسلام والإيمان، وإنما مراده الوصول إلى مقام الإحسان.

فسلوك الطريق إلى الله لا يهب المرء علوماً عقليّة فقط، ولكن يكشف له أيضاً أسراراً روحيةً وحقائقَ لا يمكن اكتشافها إلا بالخبرة المباشرة. ولذلك يُشبَّهُ التصوّف بالتذوّق، فمن لا يذقه بالممارسة لا يمكن أن يعرف حلاوة طعمه، ومن لا يمارسه لا يفهم حقيقته ولا يطّلع على أسراره، وإنْ دَرَسَه طول عمره. فالفرق بين «دراسة» التصوّف و «ممارسته» هو كالفرق بين القراءة والسماع عن الكرامات ومعاينة هذه الخوارق بشكل مباشر؛ وكالفرق بين القراءة والسماع عن عالم الروح وأسراره وتلقّي فتوحات روحية مباشرة. وإذا عدنا إلى مثلنا القرآني أعلاه، فإنه كالفرق بين القراءة والسماع عن تدخّل الملائكة في القتال ضد الكفّار وشهود ذلك التدخّل.

وحتى من قَدَّر الله له أن يكون شيخ الطريقة في المستقبل، وكُشِفَت له ولغيره إشارات جليّة وخفيّة عن هذا القدر المستقبلي، فإن أبواب عالم الروح لا تُفتَح أمامه حتى يبدأ في سلوك التصوّف. ويقول شيخنا في هذا السياق بأنه قرأ الكثير من كتب التصوّف في عصر والده الشيخ عبد الكريم، ولكنّ تلك الكتب لم تعطه سوى معلومات عن عالم التصوّف من خارجه. ولكن بعد وفاة الشيخ عبد الكريم وجلوسه على سَجّادة الطريقة وسلوكه لمنهجها انفتحت أمامه أبواب عالم الروح وبدأت أسراره تُكشَف له.[4]

ومثلما لا يمكن الوصول إلى هذه الأسرار إلا بالسلوك الصوفي، فإن منها ما لا يمكن البوح بها لغير أهلها. فقد يسمع السالك يوماً أمراً أو يرى شيئاً من هذه الأسرار فيخبر به شيخه، فيعلّق الشيخ عليه أو يضيف إليه شيئاً. ولكن الشيخ ما كان سيحدّث ذلك الدرويش عن ذلك السرّ من غير أن يصل إليه بالسلوك. ويقول شيخنا مخاطباً الدرويش في هذا الأمر: «إنني أحدّثك عن الطريق إلى الله لا لكي تعلم فقط، ولكن لكي تعمل»، أي لكي يسلك المريد على الصراط المستقيم.

[1] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 50، ص 65.

[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، الطريقة العليّة القادِريّة الكَسْنَزانية، ص 75.

[3] سندرس أوارد الطريقة الكَسْنَزانِيّة بالتفصيل في الفصل التاسع عشر.

[4] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 حزيران 2000.