وظيفة الكرامة

وظيفة الكرامة

اتّفق العلماء على أن معجزات النبي وكرامات الولي هي آيات من الله للناس تصدّق دعوة ذلك النبي. فالسبب الرئيس أن الله أذن بالكرامات ولم يقصر خوارق العادات على المعجزات هو إن الناس في كل زمان ومكان يحتاجون، إضافة إلى الحجج العقلية، إلى الخوارق لكي تجذبهم للدين وتثبّت إيمانهم. فمن غير المنطقي الظن بأن يكون الناس في وقت ظهور نبي ما بحاجة إلى معجزات لكي يصدّقوه ولا تكون للأجيال اللاحقة نفس الحاجة، إن لم تكن أكبر، إلى خوارق تؤكّد لهم صحة عقيدتهم. فمُحَمَّد ﷺ كان يُعرَف في مكة قبل البعثة بوصف «الصادق الأمين»، ولكن ذلك لم يُغنِ الناس عن معجزات تؤكّد لهم صدق دعواه بنزول كتابٍ من الله عليه وأمانته في نقله إليهم، فصدَرَت عنه المعجزات. ولم تقلّ الحاجة إلى المعجزات في السنين اللاحقة عنها في بداية البعثة، لأن النبي ﷺ كان في حالة إرشاد مستمر لأفراد وأقوام جدد، فكانت حياته كلّها خوارق. فبالمعجزات جذب الله أعداداً غفيرة من الناس في شبه جزيرة العرب وخارجها كانوا يعيشون على غزو بعضهم البعض وبينهم تاريخ من العداوة والبغضاء والانتقام يعود إلى عشرات السنين وجعلهم إخواناً يضحّون بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله:

﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران/103).

﴿وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّـهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال/62-٦٣).

ويؤكّد شيخنا، خلافاً لما يدّعيه أعداء الإسلام، بأن الرسول ﷺ لم ينشر الدين بالقوة، إذ لم يكن جهاد المسلمين الأوائل بالسلاح إلا دفاعاً عن النفس في بيئة عدائيّة لم تسمح لهم باعتناق وممارسة الدين الذي اختاره الله لهم فاختاروه لأنفسهم. ويجب أن لا ننسى بأن عرب الجاهلية اعتادوا القتال والحروب، فما كان استخدام السلاح لإجبارهم على دخول الإسلام سيقودهم إلى إيمان حقيقي به، ناهيك عن البقاء عليه. كما لو كان الإسلام قد انتشر في أول أمره بالعنف والسلاح، لما كان سيكون أكثر نجاحاً من غيره من الحملات العسكرية التي قد تحقّق أهدافاً ما لفترة من الزمن قبل أن تتبعها حملات تغيّر تلك الإنجازات أو تمحوها بالكامل. فلا يمكن إدخال العقيدة الدينية في قلوب الناس كَرهاً، مثلما لا يمكن إخراجها منها بالقوة، ولذلك أمر الله بأن: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة/256). فلننظر، على سبيل المثال، كيف حاول الاتّحاد السوفيتي على مدى ستة عقود إبعاد شعوبه عن الدين وتحويلهم إلى ملحدين، ولكن باءت محاولاته بالفشل، وانحلّ الاتّحاد وذهب، وبقي الناس على أديانهم. فالذي نشر الإسلام وثبّته في قلوب الناس هو معجزات الرسول ﷺ وامتداداتها من كرامات الصالحين من أتباعه وقوة منطق رسالته وإنسانيتها وجاذبيّة تعاليمه.

فمثلما كانت معجزات النبي ﷺ دلائل لمن شهدها على صدق دعوى النبوة، فإن الكرامات هي براهين لمن لم يعِش في زمن النبي ﷺ ولَمْ يَرَ معجزاته على صدق تلك المعجزات وبالتالي على صدق الدعوة المُحَمَّدية، لأن الكرامات هي امتداد لمعجزات الرسول ﷺ. وعدم وعي بعض المسلمين اليوم بوجود الكرامات يجعلهم ينكرون بعض معجزات النبي ﷺ التي وثّقتها كتب الحديث والتاريخ، متحجّجين بعدم ورودها في القرآن وبأن تلك الكتب تجمع بين طيّاتها ما هو تاريخي وما هو مُلفَّق. إن الحجّة الأولى باطلة، لأن القرآن أشار صراحة إلى بعض معجزات الرسول ﷺ، كما قدّمنا، كما أن من الحقائق التي لا جدال فيها أن القرآن لم يوثّق كل تفاصيل حياته ﷺ. أما الحجّة الثانية، فلا شك أن كتب التاريخ والحديث تخلط بين ما هو حقّ وما هو مزيّف، ولكن المنهج العلمي يستوجب عدم رفض كل ما جاء فيها، مثلما يفرض عدم قبول كل ما تذكره. ومن المستحيل تتّبع أصل كل ما جاء في هذه الكتب عن معجزات النبي ﷺ لمعرفة ما إذا كانت تاريخاً أم لا، لأن كونها خوارق يضعها خارج نطاق منهج البحث التاريخي التقليدي المصمَّم لدراسة الحوادث الطبيعية. ولكن الحل يأتي من مصدر آخر: الكرامات. فالكرامات هي وقائع تاريخية يمكن التثبّت منها بشكل علمي، لأنها تحدث في كل زمان. ورغم أن الكرامات لا تؤكّد بشكل مباشر وبالتحديد كل معجزة للنبي مُحَمَّد ﷺ مذكورة في مصادر الحديث والتاريخ، فإنها تؤكّد بأن كل أصناف تلك المعجزات يمكن أن تكون قد حدثت. فعلى سبيل المثال، تذكر المصادر بأن النبي ﷺ شَفَى مرضى بمعجزاته، وكرامات شفاء المرضى التي تحدّث في كل زمان تصدّق تلك الروايات بشكل عام، وهكذا. ولكن لنستشهد بواقعة معيّنة.

في يوم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، أراد الدراويش ذبح ثور ليكون طعاماً للاحتفال. ولكن يبدو أن الثور أحسّ بالخطر، فهرب قبل أن يمسكوه. فأخبروا إلى الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان الذي أجابهم: «إذا لا يأتي الثور ويتوسّل أن يكون طعاماً لمولد الرسول ﷺ فنحن أيضاً لا نريده». فإذا بالثور بعد قليل يعود إلى القرية ويأتي إلى مجلس الشيخ ويرقد على الأرض واضعاً رأسه أمام قدمي الشيخ، وكأنه سمع وفهم قول الشيخ واستجاب له. فقال الشيخ للدراويش بأنهم يستطيعون الآن أن يذبحوا الثور. فمثلاً تبرهن هذه الكرامة صحّة ما ورد عن النبي ﷺ من معجزات استجابة الحيوانات وتبجيلها له.

ومن الطبيعي أن نجد بأن الكرامات قد لعبت دوراً رئيساً في نشر الإسلام في مختلف بِقاع العالم، حيث جذبت إليه الناس وثبّتتهم عليه، لأنها أقنعتهم بأن رسالة النبي مُحَمَّد ﷺ التي حملها المرشدون هي حقّ، وبرهنت لهم بأن هذا الدين هو فعلاً من الله، لأن هذه القوّة الروحية غير المحدودة لا يمكن أن يكون مصدرها سوى الله القادِر على كل شيء. فمثلاً يعود دور الشيخ عبد القادِر الگيلاني الاستثنائي في نشر الإسلام، خلال حياته وإلى يومنا هذا، إلى كراماته التي لا يعدّها عدد.

وبينما تسهّل الخوارق من المعجزات والكرامات للإنسان قبول دعوة الله، فإنها لا تسلب منه إرادته فتجبره على ذلك، ولذلك أنكر الكثير من الناس رسالات الأنبياء رغم ما قاموا به من معجزات تشهد بصدق دعواهم. وقد أكّد الله عز وجل هذه الحقيقة في القرآن الكريم في عدد من الآيات الكريمة:

﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾ (الحجر/14-15).

﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (الأنعام/٧).

﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأنعام/٣٥).

فليس هنالك دواء لمن يصر على إنكار ما تشهده حواسه إلى هذا الحد!

وهكذا فإن الكرامات أيضاً تعرّف الناس بالمرشدين الحقيقيين الذين يهدون إلى الله. فمن يَسِرْ على نهج القرآن العظيم وما سنّه النبي ﷺ قولاً وفعلاً يكتسب من نوره ويرث أحواله الروحية، فتظهر عليه ومنه خوارق العادات. وكلما ازداد قرب ذلك العابد من الله ازدادت كراماته التي تظهر قريباً منه وبعيداً عنه، ليلاً ونهاراً، لتُعلِم الناس عن مكانته من الله وتدعوهم لاتّباعه ليصلوا إلى ربّهم، لذلك هنالك من لا تظهر له أو عليه الكرامات إلا نادراً بينما هنالك من يعيشها كل يوم، نوماً ويقظةً. إن التزام المريد بأذكار الطريقة وتوجيهات أستاذه يوقد في قلب المريد حبّ الشيخ، وهذا الحبّ يقود بدوره إلى حب الرسول ﷺ، وحب الرسول هو وسيلة حب الله عز وجل. فالكرامات هي من ثمرات أرقى أنواع الحب الذي خلقه الله ويسّره لعباده. وكل حب حقيقي هو قوة إيجابية تظهر آثارها على المحب في مختلف أوجه حياته. ولكنّ آثار الحب الأرقى، وهو حب الله ونبيّه ﷺ ومشايخ الطريقة، تعكس مكانة المحبوب، ولذلك فإن آثار الحب الإلهي لا مثيل لها.

فلا يمكن أن تَصدق دعوى شخص ما بأنه شيخ طريقة وأن النبي ﷺ والمشايخ اختاروه ممثلاً لهم إذا لم تكن لديه كرامات تشهد بصحّة دعواه. فالشيخ يستشهد بكرامات من تقدّم من الصالحين لتحبيب الإيمان إلى قلوب الناس وتثبيته فيها، ولكن درجة تأثيره على الناس تأتي من الكرامات التي تظهر على يديه ويشهدها المريدون في حياتهم وحياة غيرهم، لأنّها تبرهن للناس بأن هذا الشيخ هو من صنف عباد الله الذين يتحدّث عنهم وأنه وارثهم، وتدلّل على ارتباطه بالنور المُحَمَّدي الشريف الذي هو منبع تلك الكرامات، فتشهد بإن اتّباعه هو سير على السُّنّة النبوية الصحيحة التي تقود إلى الله. ولما كان مشايخ الطريقة الكَسْنَزانيّة ورثة أحوال النبي ﷺ وعلومه الروحية، فإن في حياة كل منهم ما لا حصر له من الكرامات. والخوارق هي من أسباب اجتماع الناس من كل مكان وعِرق وثقافة وخلفية اجتماعية في الطريقة، فما من مريد سالك لم يشهد بنفسه كرامات الطريقة ويختبرها. وهنالك ما لا يُعدُّ من الكرامات التي جذبت إلى الطريقة أناساً ما كانوا يهتمّون بها، بل وحبّبتها حتى إلى من كانوا أعداءً لها ولمشايخِها ولأتباعِها.

وحين نتفكّر في وقع الكرامات على الناس نستطيع أن نفهم قول شيخنا بأن لها دوراً فريداً في تحويل إيمان الإنسان من «تقليدي» إلى «حقيقي»، حيث يستشهد بهذه الآية الكريمة: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر/99). فالإيمان التقليدي هو ما يرثه الإنسان من أهله وثقافته وينشأ عليه، فمثل هذا الإيمان يكون مدفوعاً بالعادة والتقليد والتلقين أكثر منه بالاكتساب والتعلّم الاختياري. ويبقى هذا الإيمان محدوداً في قوّته حتى حين يزيد المرء من علمه بالدين ويعزّز الأسس العقلية لإيمانه. والسبب هو أن جوانباً كثيرةً من العقيدة الدينية هي أمور غيبيّة، فلا يمكن البرهنة عليها أو تفنيدها عقلياً. فمثلاً، لا يمكن التحقّق من وجود يوم القيامة عقلياً، لأنه حدث مستقبلي لا يمكن الاستدلال عليه من حوادث الحاضر ولا البرهنة عليه بالمنطق، ومن غير الممكن للعقل التيقّن من عالم الملائكة، لأنه عالم مختلف تماماً عن عالمنا ولا يمكن الوصول إليه بحواسنا ووسائل الاستكشاف التي في متناولنا، وكذلك الأمر مع عالمي الجن والأرواح. فمهما برع المرء في تأسيس عقيدته، الموروثة غالباً والمكتسبة أحياناً، على قواعد عقلية قوية، لن تكون هذه الأسس كافية لكي تقوم عليها كل جوانب العقيدة الدينية. وهنا تأتي الكرامة لتكون للإنسان برهاناً على العقيدة الدينية، بما في ذلك ما كان غيباً، فتقطع كل شك باليقين: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر/99). فالخوارق الإلهية هي دلائل على عالم الغيب في عالم الشهادة مصدرها ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ (الأنعام/73)، فتثبّتَ الإيمانَ بغيبيّات العقيدة. فهدف الكرامات هو إيصال العابِد إلى مرتبة الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».[1]

فَصُحْبَة التَزْكِية هي الطريق إلى شهود الخوارق بشكل مباشر، وهذا الشهود المباشر هو الطريق إلى الإحسان. ولكن كما ذكرنا، فإن ما يجنيه المرء من خير من صُحْبة القوم أهل الله وما يراه من كرامات يعتمد على مدى تفانيه في إعطاء هذه الصُّحْبة حقّها، وهذا الحق هو عبادة الله عز وجل والتمسك بأوامر الدين ونواهيه. ويقول شيخنا بأنه إذا رعى المريد بيعة الطريقة، التي يشبّهها بالنبتة الروحية، حقّ رعايتها، فإن الله يهبه أنواع الخوارق:

«إذا خدم المريد هذه النبتة وسقاها بالماء، أي بنور الذكر، بنور العبادة، بنور الطهارة، بنور النظافة، بنور الشريعة، بنور القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى ينوّر قلبه. فيرى كل ما يشاء بإذن الله، وينوّر الله له كل ما يريد، لأنه قال عن نفسه: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (يس/82)».[2]

وهنالك فرق كبير بين أن يسمع المرء أو يقرأ عن شيءٍ وأن يَشهَده بنفسه، لأن الخبرة المباشرة هي مصدر العلم اليقيني عن ذلك الشيء. وهذا ينطبق على الأمور بشكل عام، بما في ذلك الكرامات. فمن كان يسير على الحق، لابد أن يرى بأم عينه دلائل ذلك الحق خوارقاً للعادات تبطل فيها قوانين الطبيعة ويغلب فيها الغريب على المألوف. وكان الشيخ عبد القادِر الگيلاني يكرّر في مجالسه بأن الوصول إلى الله يجعل المرء يشهد «ما لا عينٌ رأَت، ولا أُذنٌ سَمِعت، ولا خَطَر على قلب بشر».[3] فالكرامة هي من علامات وثِمار صَلاح المرء، ولكنّها أيضاً من متطلبّات نجاح المرء في إصلاح غيره.

وهنالك حقيقة أخرى مهمة جداً عن الكرامات، وهي أن بعض الخوارق هي عطايا خاصّة يجب على من يتلقّاها كتمها. فبعض خوارق القرب من الله يُرادُ منها أن تكون آيات عامة للناس، أي الغرض منها الإرشاد والدعوة إلى الله، وبعضها الآخر خاصة فيجب أن تبقى سراً أو لا تُكشَف لعموم الناس. فالنبي مُحَمَّد ﷺ قام بمعجزات كثيرة شهدها الناس، ولذلك فإنها كانت من الصنف العام من الخوارق التي وظيفتها أن تكون أدلّة على إلهية رسالته. بل إن الله أمره بأن يعلن كل مظاهر ما أنعم عليه من نعمة، بما في ذلك المعجزات العامّة: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى/١١). لكن من الطبيعي أن الرسول ﷺ عاش ما لا يحصى من التجارب الروحية الخارقة الخاصة، مثلاً خلال عباداته، فمن غير المعقول أن نفترض بأنه أعلنها كلّها. وهذا ينطبق على الكرامات أيضاً. فبعض الكرامات تحدث على مَرأى من الناس، وبعضها يُعلِنُها أصحابها لتكون دليلاً على استمرارية بركة النبي مُحَمَّد ﷺ ورسالته، أي لإرشاد الناس إلى الطريق إلى الله، بالإضافة إلى تأكيد استقامة من تُنسَب إليه هذه الكرامات. ففي حالة الإرشاد يجوز، بل وأحياناً يتوجّب، كشف الكرامات. ولكن الشخص القريب من الله يعيش أيضاً كراماتٍ خاصّة به وحده. وهذه آية كريمة تتحدّث عن الكرامات الخاصة التي تحدث للإنسان المتقي:

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ (فُصِّلَت/30-٣2).

ويؤكد شيخنا بأنه لما كانت هذه الكرامات عطايا خاصة للمريد العابد فإنه يجب أن لا يفشيها لأحد، ولكنه يمكن أن يخبر بها شيخه. فإعلان الكرامات الخاصّة يمكن أن يُدخِل على قلب المريد الفخر والزهو فيؤّثر سلباً على وضعه الروحي. ولكونها عطايا خاصّة إلى الشخص تعكس وضعه الروحي، لا يجوز له أن يشارك بها آخرين، وإفشاؤها يمكن أن يوقف حدوثها لأن من شروطها الكتمان. وفي سياق التعليم بالأمثال، يقول أستاذنا بأن حرص الدرويش على إخفاء الكرامة يجب أن يكون كحرص امرَأَة مُسنّة ضعيفة مدقعة الفقر على إخفاء قطعة نقود ذهبية تمتلكها خوفاً من أن يسرقها أحد أو أن تفقدها.

وبينما تكون الكثير من كرامات مشايخ الطريقة التي يساعدون بها مريديهم والناس في مختلف الأمور علنية، فإن بعض هذه التدخّلات الخارقة تحدَث أحياناً من غير أن يشعر بها المرء. ففي سبعينيّات القرن الماضي، كان الحضور في مجلس الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان في كركوك، بما فيهم الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد، يتحدّثون عمّا حدث لهم أو شهدوا من كرامات للمشايخ الكَسْنَزانِيّين. وكان أحد أحفاد شاه الكَسْنَزان يروي كرامات عن جدّه، ففكّر أخوه في سرّه بأن الكل يتحدّثون عن كرامات شاه الكَسْنَزان سواه، إذ لم يتفضّل عليه شاه الكَسْنَزان بأي شيء. ولكن حين جاء هذا الرجل في اليوم التالي إلى المجلس أخبر الحضور بما فّكر فيه وأنه رأى شاه الكَسْنَزان في تلك الليلة في المنام وذكّره بحادثة وقعت له في كركوك: «تذكّر يوم كنت تعبر الشارع وجاءت سيّارتان متقابلتان، إحداهما من مدينة الموصل والأخرى من كركوك، وكنت بين السيارّتين، فكيف وجدت نفسك فجأة على الجانب الآخر من الشارع؟»، فعلم الرجل بأن جدّه شاه الكَسْنَزان هو الذي أنقذه في ذلك الموقف من غير أن يشعر. وتبيّن هذه الكرامة بأن كثيراً من الكرامات هي مساعدات روحية من مشايخ الطريقة للناس. وعلّق شيخنا على هذه الحقيقة قائلاً بأن المريد الواعي روحياً يدرك مثل هذه التدخّلات الروحية حين تحدث، ولكن مشايخ الطريقة يساعدون المريد حتى وإن لم يكن واعياً بهذه المساعدات.[4]

ولكنه يؤكّد على ضرورة أن لا يجعل المرءُ هدفَهُ شهودَ الكرامة أو اختبارها شخصياً. فيجب أن يكون هدف الإنسان العابد هو القرب من الله، لتكون عبادته خالصة لوجه الله، وأما الكرامة فتأتي نتيجة لهذا القرب:

«إذا أتيت إلى الطريقة بهدف الحصول على الكرامات فهذا يعني بأنك لم تأتِ لله. إن الله هو الذي يعطيك الكرامات. ففي أصول طريقتنا، يجب أن تكون الكرامات هي التي تبحث عن المريد، وليس المريد هو من يبحث عن الكرامات. يجب عليك أن تبحث عن خالق الكرامات، عن الذي يمنحك الكرامات: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/13)».[5]

فمن حقّ المرء العابد أن يطلب رؤية ما يثبِّت إيمانه، مثلما طلب النبي إبراهيم ذلك: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ﴾ (البقرة/260)، ولكن هذا يختلف عن جعل رؤية الخوارق هدفاً للعبادة. فهدف العبادة هو الفناء في حب الله عز وجل.

ولما كان حصول الكرامات للإنسان وقيامه بها مرتبط بالقرب من الله، فكلّما اقترب العبد من الله بالذكر والعمل الصالح ازداد ما يوهَب من الخوارق. وروى شيخنا بأن درويشاً طلب من خليفة أن يدعو الله ليقضي له حاجة، فوعده الخليفة بأن يفعل. ثم جاء ثاني وثالث وتكررت الحالة عدة مرّات والخليفة يعد كلاً منهم بأن يدعو له. وفي الليل شاهد الخليفة في المنام المشايخ يسألونه بعتاب: «ما كانت عبادتك هذا اليوم لكي تَعِدَ الدراويش كل هذه الوعود بقضاء حاجاتهم»؟ فالله عز وجل يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر/63)، فقد وعدنا الله بالاستجابة عندما ندعوه، ودعوته تعني عبادته. ويشبّه شيخنا هذا بمن يذهب إلى السوق للتبضّع، فإنه يستطيع أن يشتري فقط بقدر ما لديه من نقود.[6] فعطايا الله للعبد تتناسب مع قدر عبادته، وإن فاقت رحمته وفضله استحقاق العبد.

وللكرامات أيضاً دور في تثقيف السالك روحياً، حيث تنكشف عن طريقها أسرارٌ روحية وعلومٌ لا يمكن الوصول إليها بالعقل. وأذكار الطريقة هي ثمرة هكذا كشوفات روحية، حيث تنكشف لمشايخ الطريقة أورادٌ لها فوائد روحية تناسب حاجات التطور الروحي للدراويش في تلك الأزمنة والأمكنة، فيجعلون هذه الأوراد أذكاراً للطريقة.

إذاً فالكرامة هي من ثمرات العبادة والقرب من الله تعالى، ولها أربع فوائد رئيسة لمن تحدث على يديه، أو تقع له، أو يشهدها. فبالإضافة إلى دورها الفريد في ترقية إيمان المرء من إيمان تقليدي إلى إيمان حقيقي، فإنها تبيّن له من يسير فعلاً على نهج الرسول ﷺ، وهي أيضاً من أسباب عون الله لعباده في مختلف الحاجات، كما أنها من مصادر الثقافة والعلوم الروحية.

وليس هدف الكرامة الكسب المادّي في الحياة الدنيا، وهنالك الكثير من الكرامات التي تؤكّد هذه الحقيقة. ذهب شاه الكَسْنَزان في صُحْبة البعض يوماً إلى قرية خاوية لكي يجلبوا حنطة للتكية. وفي الطريق سألته ابنته عن سبب حاجتهم للذهاب إلى تلك القرية لجلب الحنطة بدل أن يحصلوا على ما يحتاجون بكرامة منه، كأن يُخرِج ليراتٍ ذهبية من الأرض. فأزاح الشيخ بعصاه صخرة في الطريق فظهرت من تحتها ليرات ذهبيّة. ففرحت ابنته وأرادت أن تأخذ الذهب، ولكن الشيخ أعاد الصخرة إلى موضعها فاختفت الليرات، وقال لها: «نحن لا نريد الذهب، فلو كنا نريده لما أصبح في متناولنا هكذا. إن جلب الحنطة من خاوية أفضل لنا أن من أخذ هذه الليرات».

[1] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 50، ص 65.

[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، الثلث الأخير من 10/2013.

[3] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 27.

[4] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، الثلث الأخير من 10/2013.

[5] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 9 حزيران 2000.

[6] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 15 نيسان 2016.