حبل الوصول إلى الله

حبل الوصول إلى الله

إن الذكر هو أساس الوصول إلى الله، حيث ربط الله ذكره لعبده بذكر العبد له: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة/152)، فأمر في كتابه الكريم بالإكثار منه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلً﴾ (الأحزاب/41-٤٢). وحتى الصلاة التي وصفها الرسول ﷺ بأنها «عِمادُ الدّين»[1] هي نوع من الذكر، كما بيّن العزيز الحكيم في كتابه الكريم: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه/14). فالصلاة هي ذكر في وقت معيّن بشروطٍ معيّنة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ (النساء/103). ولنتدبّر أيضاً قوله الكريم:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّـهِ وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الجمعة/9-10).

من الواضح أن هدف صلاة الجمعة هو ذكر الله. ولصلاة الجمعة، مثل كل صلاة، وقت معيّن وشروطٌ خاصّة، ولكن ذكر الله بشكل عام لا وقت له ولا حدّ، ولذلك أمر الله المؤمنين بعد انتهائهم من صلاة الجمعة وتفرّقهم لمختلف شؤونهم أن يداوموا على ذكره كثيراً. فالأصل في الصلاة هو الذكر، أي أن الذكر يشمل الصلاة والصلاة هي أحد فروعه، ولذلك وصف الله الذكر بأنه أكبر:

﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّـهِ أَكْبَرُ﴾ (العنكبوت/٤٥).

وهذه آية كريمة أخرى تبيّن بأن الذكر بشكل عام، أي باستثناء الصلاة وأية أذكار أخرى مشروطة، يمكن أن يقوم به المرء في أي وقت ومكان وحال:

﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران/١٩١).

ويقول الله في الحديث القدسي عن دور الذكر الفريد في ربط العبد بالمعبود عز وجل وتقريبه منه:

«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي. فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي؛ وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا؛ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا؛ وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».[2]

ومن حديث النبي ﷺ في فضل الذكر:

«لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».[3]

«إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ جِلاءً، وَإِنَّ جِلاءَ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».[4]

«مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ كمَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ».[5]

«أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُون».[6]

وهنالك الكثير من الأحاديث الشريفة في منزلة الذكر وأهمّيته وأفضال الأذكار المختلفة.

وفي وصفه لانشغال أهل الذكر بالله، يقول الشيخ عبد القادِر الگيلاني عن ارتباط ذكر الله للعبد بذكر العبد لربه:

«التَحَقوا به وبالمحبين له، ساروا معه بقلوبهم حتى وصلوا إليه، وحصّلوا الرفيق قبل الطريق. فتحوا الباب بينهم وبينه بذكرهم. ما زالوا يذكرونه حتى حطّ الذكر عنهم أوزارهم. فَقْدُهم مع غيره،[7] ووجودهم به. سمعوا قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة/152)، فلازَموا الذكر له طمعاً في ذكره لهم. سمعوا قوله عزَّ وجلَّ في بعض ما تكلم به: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي»،[8] فهجروا مجالس الخلق وقنعوا بالذكر حتى تحصل لهم المجالسة له».[9]

كما وصف قَدَّسَ الله سِرّه العزيز حال العبد الذاكر فقال: «تسكن جوارحُه وقلبُه لا يسكن. عينا رأسه تنامان وعينا قلبه لا تنامان. يعمل بقلبه ولا يفتر، ويذكر وهو نائم».[10]

والذكر هو صلة الدرويش الروحية بأستاذه الذي يربطه بسلسلة المشايخ، إلى الرسول ﷺ، وصولاً إلى الله. فكل بركة وحال ومقام يأتيه من الله عن طريق شيخه سببه الذكر. ولذلك يكرّر أستاذنا دائماً على أسماع المريدين كلام الغوث الأعظم: «من ينقطع عن الأوراد، ينقطع عنه الإمداد»، أي تنقطع عنه البركة الروحية من شيخه. فمن الضروري أن يذكر المريد الله بشكل مستمر، ولذلك للطريقة أوراد تشمل كل أوقات اليوم، كما سنرى لاحقاً. ويقول أستاذنا:

«إذا لم تكن لديك أوراد يومية، فلن يكون عندك مدد يومي. لذلك فإنهم (مشايخ الطريقة) جعلوا للمريد أذكاراً: أذكاراً يومية، وأذكاراً دائمة، وأذكارَ العصر، وهكذا، وذلك لكي تكون دائمًا في حضور مع الله، دائمًا موجوداً عند الله».[11]

ويقول بأن النبتة الروحية من الرسول ﷺ التي يكتسبها المريد عند أخذه بيعة الطريقة من الشيخ يجب أن تُسقى بنور الذكر حتى تنمو كالشجرة التي يصفها الله في المثل القرآني: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم/24-25).[12]

ومن شروط الذكر أن يكون قلب الذاكر غير مشغول بشيء عن الله، ويضرب الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد مثلاً في وصف هذه العزلة مع الله فيقول بأن الذاكر يجب أن يكون مثل من يغطس رأسه في الماء فلا يعود يسمع أي صوت يشغله. وهو دائم التذكير بتمييز الرسول ﷺ بين الصلاة المقبولة وغير المقبولة، أي تمييزه بين حضور وغياب القلب عند الذكر. وحضور القلب في الذكر هو حال يجب أن يسعى الإنسان للوصول إليه وهو يذكر، لا أن يتوقف عن الذكر في انتظار مجيئه أولاً، حيث قال الشيخ ابن عطاء الله السكندري:

«لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، فإن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره. فعساه أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة سوى المذكور: ﴿وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ بِعَزِيزٍ﴾ (إبراهيم/20)».[13]

ولأن الذكر هو حبل الوصول إلى الله فقد أولى مشايخ الطريقة اهتماماً كبيراً به وجعلوه الشغل الشاغل للمريد.

[1] البيهقي، شعب الإيمان، ج 3، ح 2807، ص 39.

[2] البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 7129، ص 693.

[3] مسلم، صحيح مُسلم، ج 4، ح 2700، ص 2074.

[4] البيهقي، شعب الإيمان، ج 1، ح 523، ص 396.

[5] البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 6180، ص 474.

[6] البيهقي، شعب الإيمان، ج 1، ح 526، ص 397.

[7] أي يكاد أن لا يكون لهم وجود حين يكونون مع غير الله، أي مع الناس، لأنهم لا يحبّون الانشغال بغيره عز وجل.

[8] البيهقي، شعب الإيمان، ج 1، ح 680، ص 451.

[9] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، الفتح الرباني والفيض الرحماني، ص 22.

[10] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 45.

[11] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 19 أيلول 2012.

[12] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، الثلث الأخير من 10/2013.

[13] السكندري، حكم ابن عطاء الله، ص 87-89.