الصبر في الصُّحْبة

الصبر في الصُّحْبة

من بديهيّات الطاعة، أية طاعة، أنها تتطلّب صبراً، فكذلك حال طاعة المريد للشيخ. فلكي يساعد الشيخ المريد على أن يتطوّر روحياً ويكتسب الشمائل الحميدة، فإنه يطلب منه أن يجاهد نفسه، وهذا يعني القيام بأفعالٍ جديدة عليه والتوقّف عن أخرى قد اعتاد عليها. وكثير من هذه التوجيهات تتطلّب من المريد صبراً لأنها تخالف هوى النفس. فإذا لم يصبر المريد على تربية شيخه له فإنه لن يطيعه وبالتالي لن تكون الصحبة كاملة ولن تحقّق كل أهدافها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران/200).

ولكن صحبة الطريقة تتطلّب صبراً من نوعٍ آخر أيضاً، وهو صبر الشيخ على المريد. وهذا أيضا أمر بديهي لأن أية تربية تتطلّب من المُربّي صبراً على عيوب من يربّيه وعلى كسله في تحقيق شروط الصحبة. فلا شكّ أن المريد سيفشل كل حين وآخر في تنفيذ بعض توجيهات شيخه لسبب أو لآخر. والشيخ يرى تقصير مريده في واجب الصحبة أحياناً ظاهراً وأخرى روحياً، وكما نرى في كلام الشيخ عبد القادِر الگيلاني:

«متى تتوبون يا مدبرين! يا عصاة، صالحوا ربكم بواسطة التوبة. لولا حيائي من الله ومن حلمه، لقمت وأخذت بيد واحد منكم وقلت له أنت فعلت كذا وكذا تب إلى الله».[1]

ولكن الشيخ مأمور بستر ما يعلمه روحياً إلا ما اضطُرَّ إلى كشفه:

«البعد يستر والقرب يهتك، ولكن المقرَّب يطلع على الأشياء ويسترها ولا يتكلم بشيء منها إلا غَلَبة. فسبحان من يستر على عباده، سبحان من يُطلع خواصَ خلقه على أحوال عباده ثم يأمرهم بالستر عليهم».[2]

فتكرار المريد لأخطائه يتطلّب من الشيخ الصبر على عيوبه.

ونرى ضرورة الصبر المتبادل لدوام علاقة الصحبة بين الشيخ والمريد، وهي علاقة طويلة المدى، حين نقارنها بما حدث في قصة الخَضِر وموسى. فهذه العلاقة وإن كان الهدف منها ترقية موسى علمياً وروحياً، كما سنرى بالتفصيل في الفصل القادم، فإنها كانت مُصمَّمة من الله عز وجل بأن تكون علاقة وقتيّة قصيرة العمر، ولذلك لم تتطلّب الكثير من الصبر من طرفي الصحبة. فلم يستطِع موسى أن يفي بوعده في الامتناع عن سؤال الخَضِر عن أمور تصدر عنه وينتظر بدلاً من ذلك مبادرة الخَضِر بشرح ما حدث. كما أن علم الخَضِر بقصر هذه الصحبة هو الذي جعله يجعل من محدوديّة صبر موسى توقيتاً لعمرها، لأنه طلب من موسى صبراً كان يعلم بأنه لم يمتلكه:

﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾. (الكهف/68)

وأخذ صبر الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد في تربية مريديه أشكالاً. ومنها أنه كان ينتقي كلامه في نصح المريد فكان كريماً في قوله ليساعده على تقبّل النصيحة:

﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. (النحل/125)

وكان يحرص على أن يوازن أي نقد لمريد ما مع الثناء على أعمال أجاد فيها. فكان يجتهد في أن لا يترك المريد مجلسه إلا وهو مندفع للمزيد من جهاد النفس والعمل الصالح. ومع حرصه على إرشاد المريد على حسن العمل، فإن من مظاهر صبره في تربية الدراويش أنه كان يعفو عن أخطائهم ولا يملّ من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المُنكر. وأحياناً يصعب على المرء فهم صبر الشيخ على المريد، ولكن بدون هذا الصبر الجميل لا يمكن أن تستمر علاقة الصحبة هذه فلا يكون للمريد وقتاً كافياً للتعلّم.

[1] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 14.

[2] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 43.