الوارث المُحَمَّدي
يرث شيخ الطريقة من أحوال النبي ﷺ وصفاته، دون النبوّة التي لا تكون لأحد بعد الرسول مُحَمَّد ﷺ، ولذلك فإنه يُعرَف بوصف «الوارث المُحَمَّدي»، فقيل «الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ».[1] فالشيخ وإن لم يكن نبياً فإن دوره الإرشادي والتعليمي بين مريديه كدور النبي في قومه. وسنتطرّق في الفصل الرابع عشر إلى بعض الكرامات التي تبيّن وراثة الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان للرسول ﷺ، ولكن سنذكر هنا إحدى هذه الكرامات عن الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان، أستاذ شيخنا ووالده، فكل شيخ من مشايخ الطريقة الكَسْنَزانِيّة هو وارثٌ روحيٌ للرسول ﷺ.
كان الشيخ عبد الوهاب الطُعْمة، إمام وخطيب الحضرة القادِريّة في بغداد، يحمل في قلبه بعض التساؤلات والشكوك حول مشايخ طريقتنا. وفي عام 1996، زار الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد وحلّ ليلةً ضيفاً عليه في بغداد. وفي الصباح الباكر قصّ الشيخ الطُعْمة على خلفاء في التكية رؤيا عجيبة شاهدها في تلك الليلة. حيث شاهد الرسول ﷺ وكان الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان يمشي وراءه، وكلما وضع النبي ﷺ قدمه الشريفة في مكان ثم رفعها، تبعه الشيخ عبد الكريم بوضع قدمه على ذلك المكان. فكان النبي ﷺ يسير والشيخ عبد الكريم يتبعه بالمشي على نفس مواضع قدميه. وترمز الرؤيا بوضوح إلى سير الشيخ عبد الكريم الدقيق والحرفي على نهج جدّه النبي ﷺ، فاطمأن قلب الشيخ الطُعْمة. كما تشير كل خطوة إلى مراتب روحية وصلها الشيخ عبد الكريم. وتذكّرنا هذه الرؤيا بقول للشيخ عبد القادِر الگيلاني:
«كل وليّ على قدمِ نبي، وأنا على قدم جدّي مُحَمَّد ﷺ. وما رفع المصطفى ﷺ قدماً إلا وضعت قدمي في الموضع الذي رفع قدمه منه، إلا أن يكون قدماً من أقدام النبوّة، فإنّه لا سبيل أن يناله غير نبي».[2]
وهكذا فإن صُحْبة مشايخ الطريقة فريدة من نوعها، لأن الله تعالى منَّ عليهم بفضلٍ خاصٍ بجعلهم ورثة النبي ﷺ فجعلهم أقرب وسيلة للوصول إليه: ﴿أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ (الإسراء/57). فللوارث المُحَمَّدي بصيرة روحية خاصة تجعله يساعد المؤمن على رؤية عيوبه الخفيّة ومعالجتها، أحياناً بصريح القول والفعل وأخرى بالإشارة والرمز، أحياناً بما هو مُعتاد ومألوف وأخرى بخوارق العادات. لذلك فإن مشيخة الطريقة هي اصطفاء من الله وليست اختياراً من الناس أو اكتساباً لمن يريدها منهم. فيمكن للمرء أن يعمل ويفلح ويبلغ مراتبَ روحية عالية، ولكن نيابة النبي ﷺ هو أمر ربّاني لا يد فيه لإنسان، مثلما أن النبوة هي اصطفاء من الله وليست اكتساباً من عمل النبي. وسنرى أمثلة عديدة على ذلك عند دراستنا لسير مشايخنا في الجزء الثاني من الكتاب.
ولما كان الوارث المُحَمَّدي يجسّد أحوال وأفعال وأقوال حضرة الرسول ﷺ، فإنه يرث منه ﷺ مختلف أشكال تأثيراته الروحية، وهذه البركة الروحية هي من دلائل الوراثة المُحَمَّدية. وأحوال النبي ﷺ تظهر آثارها على وارثها مثلما كانت القوة الروحية للنبي ﷺ مرئية ومحسوسة لكل من صاحَبَه. فمثلاً روى حَنْظَلَة الْأُسَيِّدِيِّ، الذي كان من كتاب الوحي، حادثةً تبيّن التأثير الروحي لصحبة النبي ﷺ. إذ لقاه يوماً أبو بكر فسأله: «كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ»؟ فأجابه حزيناً: «نَافَقَ حَنْظَلَةُ»! فاستغرب أبو بكر قوله واستفسر عنه، فأجابه: «نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ الله ﷺ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ. فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَافَسْنَا[3] الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا»، فوافَقه أبو بكر على قوله.[4] فالحضور الروحي للنبي ﷺ يعطي لذكر الله واليوم الآخر تأثيراً أقوى على النفس. فلم يكن وقع آيات القرآن الكريم على نفس قارئها أو سامعها من المؤمنين، مهما كانت درجة تقوى القارئ والسامع، كوقعها حين سماعها من الرسول ﷺ. فصوت النبي ﷺ يكشف عن قدر أكبر بكثير من الطاقة الروحية التي تحملها كلمات الله، وهو تأثير كان يحسّه الصحابة.
ومن حضر مجالس الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان أختبر هذا الأمر بشكل مباشر. فعلى سبيل المثال، كثيراً ما كان شيخنا يكرّر في إرشاده آيات الذكر مثل: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة/152). وقد يكون المرء قد قرأ وسمع هذه الآية الكريمة مئات بل آلاف المرّات، إلا أن سماعها من فم شيخنا يجعله يجد في الآية الكريمة قوّة روحية لا يحسّها حين يسمعها من فم شخص آخر أو يقرأها أو يتذكرها لوحده، فتؤثّر فيه الآية الكريمة كما لا تفعل حين تأتي من مصدر آخر، ويحسّ بمعناها بشكل أكثر وضوحاً. ولا يغيّر من هذه التجربة الفريدة تكرار سماع المرء هذه الآية الكريمة من شيخنا، إذ تبدو كل مرة وكأنها حالة فريدة لأن السامع يتذوّق في كل مرة جمال الآية غير المتناهي. وكذلك هو حال كل كلام الإرشاد إلى طريق الله، فحين ينطق به الشيخ العارِف بالله فإن صدقه وبركة قربه من الله يجعلان للكلام تأثيراً عظيماً، لأنه يخرج من قلب امتلأ بذكر ونور الله وليس فقط من عقل مؤمن.
ومثلما أن هذا التأثير الروحي هو سرّ كون صُحْبة شيخٍ عاملٍ بنهج النبي ﷺ هي أقصر سبل الوصول إلى الله عز وجل، فإنه أيضاً دليل السالك على الوارث المُحَمَّدي الحق. فالمعلّم الذي يؤثّر في العقل دون القلب والروح قد يكون عالماً متبحراً بالدين، ولكنه ليس في مقام نيابة الرسول ﷺ. فقد يصبح المرء عالمِاً بدراسته لأقوال الرسول ﷺ، وقد يصبح هكذا عالماً عامِلاً باتباعه لأفعاله الشريفة، ولكن لا يصبح العالِم العامِل وارثاً للنبي ﷺ حتى يرث منه أحواله الزكيّة، أي بركته الروحية. فالتجربة الفريدة الكاملة التي كان يجدها المرء في صُحْبة الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد هي نتيجة كونه وارثاً للنبي ﷺ، فتَجَسَّدَت فيه أقواله وأفعاله وأحواله الشريفة ﷺ.
وتجعل أحوال النبي ﷺ الروحية وارِثها مصدراً لخوارق العادات، مثلما كانت تصدر عن الرسول ﷺ الكثير من المعجزات. فالتأثير الروحي للوارث المُحَمَّدي على قلب وروح المريد هو نوع من الكرامات، وهنالك أشكال أخرى كثيرة من الخوارق التي تصدر عن وارث الرسول ﷺ لترشد الناس إليه وتثبّت قلوبهم على الإيمان. وهذا حال كل أساتذة الطريقة الكَسْنَزانيّة، فحياة كل شيخ منهم غنيّة بكرامات لم تتوقّف حتى بعد انتقالهم من هذه الدنيا إلى دار البقاء. وسنبحث موضوع الكرامات بالتفصيل في الفصل الخامس، كما ستمر بنا بعض كرامات مشايخنا في مختلف الفصول.
وهذا أيضاً يعني بأن الوارث المُحَمَّدي هو المرجِع في التمييز بين الحق والباطل فيما قيل وكُتِبَ عن الرسول ﷺ. فمثلاً قد يشكّك البعض في صِحّة حديث حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ أعلاه، ولكن التجربة المباشرة في صُحْبة الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان للحالة التي يصفها ذلك الحديث تعطي الدليل القاطع على صحة ما رُوِيَ عن رسول الله ﷺ. وهنالك كرامة لأستاذنا في هذا الباب يجدر ذكرها. في عام 1994 تقريباً، كان الدكتور عداب الحمش، المتخصّص في الحديث النبوي، يتردّد على شيخنا في بغداد ككثير من العلماء الذين دأبوا على زيارته والمشاركة في مناقشة مختلف الأمور العلمية والدينية والثقافية في مجلسه. فذكر يوماً حديثاً يعتبره صحيحاً، ولكنه تفاجأ بأستاذنا يصف الحديث بأنه موضوع. وقال الدكتور عداب بأنه متأكّد من تصحيحه للحديث، ولكن شيخنا أصرَّ على أن الحديث موضوع واقترح عليه أن يعيد تحقيقه. وبعد أسبوع جاء الدكتور عداب لزيارة شيخنا وهو مندهش، حيث اكتشف بعد إعادة التحقيق بأن الحديث كان فعلاً غير صحيح النسب إلى النبي ﷺ، حيث وجد بأن أحد رجال سنده كان كذّاباً. فلما سأل شيخنا عن كيفية علمه بأن هذا الحديث موضوع، أجابه بأن مشايخه قالوا له بأنه مُختَلَق وأنّ المشايخ لا ينطقون غير الحق.
فشيخ الطريقة «أصدقُ إِنباءً من الكتب» في معرفة نهج الرسول ﷺ، لأنه يستلم علومه من المشايخ والرسول ﷺ. وهذا لا يعني بأنه لا يمكن للمرء التعلّم من الكتب، ولكن في كتب الدين والتاريخ بالذات، بما في ذلك ما كُتِب عن سُنّة النبي ﷺ، الكثيرَ مما لا يمكن التحقّق بسهولة من صحّته أو على الأقل من دقّته، فتراه مدار خلاف مستمر، يقبله البعض وينكره الآخر. وهذا أمر طبيعي، لأن هذه كتب وُضِعَت بعد عقود أو قرون بعد النبي ﷺ، ولم تكن في حينه أساليب التوثيق بالتطوّر الذي وصلت إليه في العصور الحديثة، فهنالك الكثير من الأخطاء غير المقصودة فيما كُتِبَ، مثلما أن هنالك الكثير من الروايات المدسوسة لسبب أو لآخر. أما الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد فأخذ سُنّة النبي ﷺ عن أستاذه الشيخ عبد الكريم، الذي أخذها بدوره عن أستاذه الشيخ حُسَين، وهكذا. وفي ذلك يقول شيخنا بأنه لا يخالف سُنّة النبي ﷺ بمقدار رأس الأصبع. فصحبة المشايخ واتّباعهم بإخلاص تورث التقوى التي هي مفتاح العلم: ﴿وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ﴾ (البقرة/282).
وهكذا فإن صُحْبة أحد ورثة أقوال وأفعال وأحوال الرسول ﷺ هي أساس الوصول إلى الله.
[1] ذكرت بعض المصادر خطأً بأن هذا حديث نبوي، لكنّ معنى القول صحيح رغم أنه ليس بحديث.
[2] القادِري، الفيوضات الربّانية في المآثر وورد القادِريّة، ص 85.
[3] أي «انشغلنا بهم».
[4] مسلم، صحيح مُسلم، ج 4، ح 2750، ص 2106-2107.