الكرامة
ليس فعل الخوارق أو شهودها أو التعرّض لها حصراً على الأنبياء، لأنها ليست خاصة بالنبوّة، وإنما هي ثمرة القرب من الله. ويذكر القرآن الكريم أفراداً قريبين من الله مرّوا بخبرات شبيهة. أحدهم الخَضِر (عليه السلام) الذي أبدى علماً بأمورٍ غيبية خفيت وعصي فهمها حتى على نبيٌ من أهل العزم آتاه الله الكتاب، أي موسى (عليه السلام) (الكهف/60-82). ومنهم السيدة مريم التي آتاها الله عدداً من الخوارق، فقد كانت ترى جبريل والملائكة عياناً وتحدّثهم (آل عمران/42)، وكان يأتيها الطعام بشكل خارق (آل عمران/37)، وحملت من غير أن يمسّها رجل (آل عمران/45-47). وهنالك أيضاً أهل الكهف الذين أَنامهم الله لأكثر من ثلاثة قرون ثم بعثهم من نومهم (الكهف/9-52).
وتُعرَف خوارق غير الأنبياء بتعبير «الكرامة» المشتقّ من قوله تعالى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات/13)، لارتباط الكرامة بالتقوى التي هي مقياس القرب من الله. وتقترن الكرامة بأولياء الله، حيث يُطلِق الله في القرآن على الشخص المقرَّب منه تعبير «ولي»، والذي يعني «نصير» أي «نصير الله». ونرى أيضاً معنى القرب في تعبير «ولي» من صلته بالفعل «يلي»، الذي يشير إلى ما يأتي بعد الشيء أو الشخص أو الأمر من غير فاصل بينهما: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس/62).
وحصول الكرامات للمرء مرتبط بشكل مباشر بطاعته لله وممارسته لرياضات روحية، كالصوم عن الطعام، تهدف إلى السيطرة على غرائزه وميوله الدنيوية. ولذلك نبَّهَ الشيخُ ابن عطاء الله السكندري السائلَ عن الكرامات: «كيف تُخرَق لَكَ العوائِدُ وأنتَ لم تَخرقْ من نفسك العوائد؟».[1]
وفيما يلي أحد الأحاديث النبوية الشريفة عن أولياء الله رواه عمر بن الخطّاب:
«قال النبي ﷺ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ». قالوا: «يا رسول الله، تخبرنا من هم؟» قال: «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللهِ عَلَى غَيْرِ أرحامٍ بينهم، ولا أَمْوَالٍ يتعاطونها. فوالله إن وُجُوهَهُمْ لنُورٌ، وإنهم لعلى نُورٍ. لَا يَخَافُونَ إذا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إذا حَزِنَ النَّاسُ»، وقرأ هذه الآية: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس/62)».[2]
من الطبيعي أنه نتيجة لاتّباعهم للنبي ﷺ، وبالتالي قربهم من الله، فقد خُرِقَت للصحابة والتابعين وغيرهم من المتّقين العادات. وفيما يلي نماذج من كرامات الصحابة والتابعين:
أرسل الخليفة عمر جيشاً إلى نهاوند وعيّن سارِية بن زَنيم قائداً عليه. وفي يوم جمعة كان يلقي الخطبة حين قطعها فجأة وصاح: «يا سارِية الجبل، يا سارِية الجبل، يا سارِية الجبل». لم يفهم عمر نفسه، ناهيك عن الحضور، لِمَ فعلّ ذلك، ولكن جاء التأويل بعد بضعة أيّام. فحين عاد الجيش من القتال، قال سارِية بأنه حين حوصِرَ جيش المسلمين سمع صوت عمر يناديه «يا سارِية الجبل»، فأمر الجيش باتّخاذ الجبل حصناً يحميه من الخلف، وساعدت هذه المناورة جيش المسلمين في الانتصار.[3]
غادر أُسَيد بن حُضَير وعَبّاد بن بِشر النبي ﷺ بعد زيارة وكانت الليلة مظلمة جداَ، فأضاءت عصا أحدهما فغدت كالسراج، فمشيا في ضوئها، فلما افترقا أضاءت عصا الآخر.[4]
حين أُسِرَ الصحابي خُبَيب بن عَدي من قبل المشركين، شوهِدَ وهو في الأغلال يأكل عنباً رغم عدم توفّره في مكة في ذلك الوقت من السنة.[5]
كان التابعي عامر بن عبد قيس يضع ما كَسَبَ في طرف ردائه ويعطي منه كل من يسأله في الطريق. ولكنه حين يصل البيت ويعطي ما في ردائه لأهله كانوا يعدّونه فيجدوه لم ينقص عمّا كان قد كَسَبَ.[6] ومن كراماته أن دعا الله أن يسهّل عليه التطهّر في الشتاء فكان يجد الماء ذا بخار من حرارته.[7]
حين ادّعى الأسود بن قيس في اليمن بأنه نبي، حاول إجبار أبي مسلم الخولاني على أن يؤمن به، لكن التابعي أصرّ على إيمانه بنبوة مُحَمَّد ﷺ ورفض ادّعاء الأسود. فغضب هذا وأمر بأن تُؤَجَّجَ نارٌ عظيمة يُلقى فيها أبو مسلم، ولكنّها لم تضرّه شيئاً.[8]
ولم يميّز علماء المسلمين الأوائل بين خوارق عادات الأنبياء والأولياء، فغالباً ما استخدموا مصطلح «آية» للاثنين، باعتبار أنها تمثّل براهينَ من الله تؤكد مصداقية رسالة النبي مُحَمَّد ﷺ.[9] فعلى سبيل المثال، يحتوي مُصنَّف عبد الرزاق بن همّام الصنعاني (ت 211 هـ)، أحد أقدم الكتب التي جمعت الحديث النبوي، باباً اسمه «ما يُعجَّل لأهل اليقين من الآيات»[10] سرد فيه عدداً من كرامات الصحابة. وكما نرى في عنوان الفصل فإنه يربط بين الكرامات والإيمان. وللبخاري في صحيحه فصلٌ سمّاه «عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْإِسْلَامِ» ذكر فيه العديد من معجزات النبي ﷺ وكرامتين لصحابيَّين.[11] فمن الواضح من عنواني الفصلين ومحتوياتهما بأن جامِعَي الحديث اعتبرا خوارق الصحابة صادرة عن بركة النبي ﷺ، ولذلك تقوم بنفس وظيفة المعجزات في التدليل على إلهية رسالته. وكذلك نجد الكتب التي جمعت معجزات الرسول ﷺ تذكر أيضاً كرامات الصحابة، مثل كتاب «دلائل النبوّة» للأصبهاني[12] وكتاب يحمل نفس العنوان للبيهقي.[13]
ادّعى البعض بأنه لا يمكن لكرامة أن تكون من نفس نوع خرق العادة لمعجزة، إلا أن هذا التمييز بين المعجزة والكرامة ليس له أساس في القرآن. وغالباً ما يستشهد هؤلاء العلماء بمعجزة موسى في شق البحر، ولكن هذا اختيار متعمّد لمعجزة فريدة، بينما هنالك معجزات لها أشباه من الكرامات. فمثلاً قام عيسى بمعجزات شفاء خارق، وهنالك عدد لا حصر له من الكرامات الشبيهة لهذا النوع من الخوارق. فالمعجزات الوحيدة التي لا يمكن تكرارها هي تلك الخاصة بنبوة النبي المعيّن، كالكتب التي أنزلها الله على بعض الأنبياء، لأن الولي هو بالتعريف ليس بنبي. ففي حالة نبينا ﷺ، على سبيل المثال، إن القرآن معجزة خاصة بنبوّته، فلا يمكن لولي مهما كانت مكانته أن يكون له مثلها. ولكن هذا لا يعني بأنه لا يمكن لولي أن يتلقّى أي وحي من الله، فكلامنا هنا هو عن الوحي القرآني حصراً، الذي لا يمكن لمثله أن ينزل على أحد بعد مُحَمَّد ﷺ. ولكن وحي الله يأتي بأشكال مختلفة، فمثلاً أوحى الله إلى أم موسى رغم أنها لم تكن من الأنبياء: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص/٧). فأخبرها بوسيلة تحمي بها وليدها، كما كشف لها معلومة غيبية غاية في الأهمية وهي أنه سيجعل ابنها من الرُسُل. وينسب أستاذنا إلى مشايخ طريقتنا قولهم بأن العمل الخارق الوحيد الذي لا يقومون به، وإن كان بمقدورهم، أن يولد ولدٌ من غير أب، أي كمعجزة خلق عيسى الفريدة.
فلا يوجد دليل على أن هنالك أي تمييز بين المعجزة والكرامة من ناحية طبيعة الفعل الخارق. ونجد إشارة إلى هذا أيضاً في قول النبي ﷺ: «رُبَّ أشْعَثٌ مدفوعٍ بالأبوابِ لو أَقْسَمَ على اللهِ لأبَرَّه»،[14] حيث لا يقصر ما يمكن أن يطلبه الصالح من الله على خوارق معينة. ويؤكّد هذه الحقيقة أيضاً هذا الحديث القدسي[15] الذي نقله النبي ﷺ عن رب العزة والذي يشرح طبيعة ما يمكن أن ينعم الله به على الولي من الخوارق:
«مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ. وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ».[16]
فمثلما لا توجد حدود لقدرة الله نوعاً أو كمّاً، فلا حدّ لطبيعة الخوارق التي يهبها لعباده. فمن يسمع بالله يمكن أن يسمع أي صوت مهما خَفُتَ وبَعُدَ؛ ومن ينظر بالله يمكن أن يرى ما خَفِيَ في السماء والأرض؛ ومن ضربت يده بالله، لم يُعجِزه شيء؛ ومن مشى بالله، طُوِيَت له المسافات وكأنها لم تكن. ويشير المتصوّفون إلى أشكال الخوارق المختلفة التي يمنّها الله على عباده، فتُفتَح لحواسهم ومداركهم الآفاق، بتعابير مثل «جلاء البصر»، و «جلاء السمع»، و «جلاء القلب». إذ ينعم الله على من يتقّرب منه بما يشاء من قوة روحية، ولذلك فإن كرامات الولي يمكن أن تكون بأي شكل من الخوارق، وهذا ما يكتشفه سريعاً كل من يدرس الكرامات أو يشهدها.
ويعني الحديث القدسي أعلاه بأن الكرامات لا يمكن أن تتوقف عن الحدوث، لأن العالمَ لا يخلو من أولياء الله الصالحين، والقرب من الله هو سبب الكرامة. وهنالك كثير من الناس ممن يؤمن بالكرامات ولكن معرفتهم بها تقتصر على ما قد قرأوه في كتب التاريخ والسير، فظنوا أنها مما حدث للصالحين في الماضي فقط. ولكن هذا الظن الخاطئ يعكس جهلاً بسبب حدوث الكرامة، وهو القرب من الله، وهذا ليس بمقصور على أهل زمان معيّن دون غيرهم، كما يبيّن غفلة عما لا يُحصى من الكرامات التي حدثت وتحدث في كل زمان. كما يعكس ذلك الظن الخاطئ الجهل بدور الكرامة، لأن دورها هو الآخر يوجِب استمرار حدوثها، كما سنرى في القسم التالي.
[1] السكندري، حكم ابن عطاء الله، ص 164.
[2] أبو داود، سُنَن أبي داؤد، ج 5، ح 3527، ص 386-387.
[3] اللالكّائي، كرامات أولياء الله عز وجل، ص 120-122؛ العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ص 533.
[4] الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 561.
[5] البيهقي، دلائل النبوة، ج 3، ص 324-325.
[6] العنقري، كرامات الأولياء، ص 154.
[7] العنقري، كرامات الأولياء، ص 155.
[8] العنقري، كرامات الأولياء، ص 163.
[9] العنقري، كرامات الأولياء، ص 24.
[10] عبد الرزّاق، المُصَنَّف، ج 11، ح 20541-20545، ص 280-282.
[11] البخاري، الجامع الصحيح، ج 2، ح 3459، ص 327؛ ح 3491، ص 334.
[12] الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 557-563.
[13] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 50-54، 77-80.
[14] مسلم، صحيح مُسلم، ج 4، ح 2622، ص 2024.
[15] الحديث القدسي هو معنى من غير لفظٍ محدد أوحاه الله عز وجل إلى النبي مُحَمَّد ﷺ فعبّر عنه النبي مُحَمَّد ﷺ بلفظٍ منه. فاختلافه عن القرآن هو أن كتاب الله هو من الله معنى ولفظاً. ولذلك فإن الحديث القدسي يشابه في أسلوبه الحديث النبوي الذي هو من الرسول ﷺ معنى ولفظاً.
[16] البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 6273، ص 493.