المعجزة

المعجزة

أيَّدَ الله أنبياءه بخوارق للعادات اقترنت بهم بشكل أو بآخر، قاموا ببعضها وحدث لهم بعضها الآخر. وأطلق علماء المسلمين على هذه الخوارق تعبير «معجزات»، الذي مفرده «معجزة». والكلمة مُشتَقّة من الجذر «عَجَزَ»، الذي يعني «لم يقدِر»، في إشارة إلى حقيقة أن المعجزة تتجاوز القدرات الطبيعية، أي أنها لا يمكن أن تحدث في الظروف الطبيعية. وترد مشتقات هذا الجذر ستٌ وعشرون مرّة في القرآن الكريم، كما في هذا المثال: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ (الأنعام/١٣٤).

ولما كانت المعجزات مستحيلة الحدوث وفقاً لقوانين الطبيعة، فإن القرآن يقدّمها على أنها براهين على أن الأنبياء هم حقاً رُسُل الله القادِر على كل شيء. فهي آيات دالّة على وجود الله وعلى صدق رسالة الأنبياء الذين ظهرت على أيديهم هذه الخوارق. ويقول شيخنا[1] بأن الهدف من معجزات النبي هو «إثبات أن ذلك النبي مُرسَلٌ من الله. والمعجزة دليل لإثبات وجود الذات (الإلهية)، لإثبات واجب الوجود».[2] فالله هو خالق القوانين وهو قادر على تعطيلها وتبديلها متى شاء، كما يقول الشيخ عبد القادِر الگيلاني:

«اعتقاد المتبعين لكتاب الله وسُنّة رسوله ﷺ هو أن السيف لا يقطع بطبعه، بل الله عز وجل يَقطَعُ به؛ وأن النار لا تحرق بطبعها، بل الله عز وجل المُحرِق بها؛ وأن الطعام لا يُشبِع بطبعه، بل الله عز وجل يُشبِعُ به؛ وأن الماء لا يروي بطبعه، بل الله عز وجل يُروي به. وهكذا جميع الأشياء على اختلاف الأجناس، الله عز وجل المتصرِّف فيها وبها، وهي آلة بين يديه يفعل بها ما يشاء».[3]

ويذكر القرآن الكثير من المعجزات التي قام بها عدد من الأنبياء. فموسى مثلاً كان قادراً على تحويل عصاه إلى حَيّة والقيام بمعجزات أخرى بها، مثل فرق البحر ليجعل فيه طريقاً يابساً يسلكه بنو إسرائيل في هروبهم من فرعون وجنوده (طه/9-79، الشعراء/10-66). وكذلك يخبرنا الله بأن النبي عيسى تكلّمَ في المهد، وأبدى حكمة بالغة وهو طفل رضيع، وخلق أشكال طيرٍ من الطين ثم نفخ فيها الحياة، وشفى الأكمه والأبرص، وأحيا الموتى، وعلِمَ بما كان يُخفي الناس في بيوتهم، وأنزل مائدة من السماء (آل عمران/45-48، المائدة/110-115، مريم/23-33).

أما النبي مُحَمَّد ﷺ، فيدّعي البعض بأنه لم يقم بمعجزات مثل الذين سبقوه وأن القرآن هو معجزته الوحيدة. إن القرآن معجزة فريدة تشهد بنبوة مُحَمَّد ﷺ، ولكن كتاب الله نفسه سجّل عدداً من معجزات الرسول ﷺ بما فيها ما يلي:

الإسراء: أسرى الله عز وجل بالرسول ﷺ من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء/1).

المعراج: عرج الله بالنبي ﷺ إلى السماء: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (٢) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (٧) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (٩) فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ (١٠) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (١٣) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (١٤) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (١٦) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (١٧) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ﴾ (النجم/1-١٨).

معرفة حوادث مستقبلية: تبيّن هذه الآية الكريمة بأن الرسول ﷺ شاهد في الرؤيا دخوله والمسلمين المسجد الحرام منتصرين: ﴿لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ (الفتح/٢٧).

معرفة أسرار الناس: كما ترينا هذه الآية الكريمة بأن الله كان يكشف للرسول ﷺ أسراراً كتمها الناس: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّـهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ (التحريم/3).

انشقاق القمر: حاجج أهل مكة الرسول ﷺ أن يريهم آية تبرهن لهم بأنه نبي مُرسَل من الله، فطلب من الله أن يريهم معجزة فانشقَّ القمر إلى نصفين. ويُعتَقَد بأن هذه الآية تشير إلى تلك المعجزة: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر/1).[4]

الرمي الخارق: خلال معركة بدر أخذ الرسول ﷺ بكفه من تراب الأرض وحصاها ورمى بها في اتجاه المشركين، فأصابتهم وآذتهم وأربكتهم مما ساعد المسلمين في تحقيق أول انتصار لهم في القتال: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال/١٧).

تبيّن معجزات فريدة مثل الإسراء والمعراج درجة قرب النبي ﷺ من الله، ولابد أن هذا القرب جعله مصدر الكثير من المعجزات. فسجّلت كتب السيرة والحديث الكثير من هذه الخوارق التي بدأت منذ ولادته الشريفة، وفيما يلي بعض معجزاته بعد البعثة:

معجزات الهجرة: رافق الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة عدد من المعجزات. أولاً، خرج النبي ﷺ في نفس الليلة التي كان المشركون قد قرروا اغتياله. ثانياً، حين غادر الرسول ﷺ بيته كان المتآمرون ينتظرون خارجه، فرمى عليهم حفنة من التراب وهو يقرأ آيات من القرآن الكريم فلم يروه.[5] ثالثاً، حين اختبأ النبي ﷺ وصاحبه أبو بكر في كهف ثَور وهم في طريقهم من مكّة إلى المدينة، أيّد الله النبي ﷺ بجنود غير مرئيين: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة/40). وذكر العلماء والمؤرخون بأن من هذه المعجزات هو أن عنكبوتاً نسج بيتاً على مدخل الكهف،[6] وأن شجرة نبتت على وجه الغار فسترته، كما وقفت حمامتان برّيّتان ببابه،[7] فلما وصل المشركون إلى الكهف بدا وكأنه لم يدخله أحد منذ فترة طويلة فلم يفكّروا في تفتيشه.

شفاء خارق: شفى الرسول ﷺ بشكل خارق للعادة مختلف الأمراض. ومن ذلك أنه نفخ على عيني طفل أعمى فأعاد إليه بصره، بل وبقي بصره من الحدّة وهو في سن الثمانين حتى كان يدخل الخيط في ثقب الإبرة. وجاءت امرأة بطفل لها احترقت ذراعه بعد أن سقَطَ على يده قدر طبخ ساخن، ففرك من لعابه على الذراع المصابة فشفيت في الحال.[8]

مخاطبة الحيوانات للنبي ﷺ وإقرارها بنبوته: هنالك الكثير من الروايات عن تكلّم الرسول ﷺ مع حيوانات. في بعض هذه المعجزات كان الحضور أيضاً يفهمون الحوار الدائر باللغة العربية. في إحدى هذه الخوارق قال أعرابي للنبي ﷺ بأنه لن يؤمن به إلا إذا آمن به ذكر سحلية كان يحمله معه. فلما خاطب الرسول ﷺ الحيوان، أجابه وأعلن إيمانه به، فأسلم الأعرابي.[9] وفي معجزة أخرى اشتكى طيرٌ إلى النبي بأن فرخيه قد سُرِقا من عشّهما، فلما سأل عمّن أخذهما اعترف البعض بذلك فأمرهم بردّهما ففعلوا.[10]

تبجيل الحيوانات للرسول ﷺ: اشتكى رجل إلى النبي ﷺ بأن جملاً له توقف عن طاعته فلم يعد يستطع استخدامه لسقي نخلة له وأصبح عدوانياً في تصرفاته. فمشى ﷺ إلى الجمل الذي ما إن رأى الرسول ﷺ حتى أقبل يمشي واضعاً رأسه بين يديه حتى سجد له، فطلب من صاحِبِه أن يخطمه ويرحل به بعد أن عاد مطاوعاً.[11]

حنين جذع النخلة إليه: كان النبي ﷺ يستند إلى جذع نخلة حين يخطب بالمسلمين. ولكن بعد أن بنوا له منبراً وذهب ليخطب منه أول مرة أنَّ الجذع حنيناً له ﷺ، فذهب إليه وحضنه فسَكَن.[12]

تفجّر الماء من بين أصابعه: كان النبي ﷺ مسافراً في صُحْبة ما يقارب ألفاً وخمسمائة مسلم حين قارب ما لديهم من الماء على النفاد وقد حضرتهم الصلاة. فطلب الرسول ﷺ ماءً فصبّه في إناء ثم وضع كفّه الشريفة فيه فأخذ الماء يتفجّر من كفّه فخرج من الماء ما كفاهم كل حاجاتهم.[13]

التنبؤ بحوادث مستقبلية: تروي السيدة عائشة بأنه حين كان النبي ﷺ في مرضه الأخير دعا ابنته السيدة فاطمة الزهراء فأسرّها سرّاً فبكت. فلما رأى حزنها دعاها مرة أخرى وأسرّها أمراً ثانياً فضحكت. فلما سألتها السيدة عائشة عما أسرّها به، لم تكشف بنت رسول الله ﷺ السرّ حينئذ، ولكن حين سألتها مرّة أخرى بعد انتقاله ﷺ من هذا العالم، أخبرتها بأنه أنبأها أولاً بأنه سيُقبَض في وجعه ذاك، فأبكاها ذلك، ثم أنبأها بعد ذلك بأنها ستكون أول من يلحق به من أهل بيته، فسرّتها البشرى وأضحكتها. ولم يتعافَ النبي ﷺ من ذلك المرض، وكذلك توفّت السيدة فاطمة بعده بحوالي الشهرين ولم تبلغ الثلاثين عاماً.[14]

كان صحابة النبي ﷺ شهوداً لمعجزاته التي لم تتوقّف، وهذا الشهود العياني كان ضرورياً ليكون لهم ذلك الإيمان العظيم الذي دفعهم إلى التضحية بالغالي والنفيس في سبيل الإسلام ورسوله ﷺ.

[1] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 9 أيلول 2013.

[2] استخدم المفكّرون والفلاسفة تعبير «واجب الوجود» للإشارة إلى الله عز وجل، حيث إن وجوده أزلي أبدي، أي لا بداية له ولا نهاية: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ (الحديد/3). أما المخلوقات فهي «جائزة الوجود»، أي يمكن أن توجد أو لا توجد.

[3] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 31.

[4] البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 4681، ص 131.

[5] ابن هشام، سيرة النبي ﷺ، ج 2، ص 102-104.

[6] أحمد، مسند أحمد بن حنبل، ج 5، ح 3251، ص 301؛ الطبراني، المعجم الكبير، ج 11، ح 12155، ص 407.

[7] الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 325.

[8] الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 466-467.

[9] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 36-37.

[10] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 32-33.

[11] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 28.

[12] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 895، ص 266؛ البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 66؛ الأصبهاني، دلائل النبوة، ص 399.

[13] البيهقي، دلائل النبوة، ج 6، ص 11.

[14] البخاري، الجامع الصحيح، ج 2، ح 3500، ص 336.