مصدر الكرامة
ذكرنا بأن مصدر كرامات المريد هي القوة الروحية لمشايخ الطريقة، وهي بدورها هبة من النبي ﷺ وامتداد لطاقته الروحية التي أعطاه اللهُ إيّاها. وطبيعة كرامات كل شيخ ومريديه تعكس درجته ومرتبته، فما يقوم به شيخ من خوارق قد لا يستطيع آخر أن يقوم به، كما يعني هذا بأن طبيعة خوارق الشيخ تتغيّر وتتنوّع مع تطوّره الروحي.
ورغم أن ظهور الكرامات للمريد يعتمد على درجة حبّه للشيخ والنبي ﷺ والله عز وجل وعلى تسليم أمره للشيخ ليقوده على الطريق المُحَمَّدي إلى الله، فمن الضروري أن لا يغترّ المريد إذا حصلت على يديه الكرامات وأن لا ينسى أن ارتباطه بسلسلة مشايخ الطريقة عن طريق البيعة هي سبب هذه البركة، فإذا انقطع عنهم انقطعت عنه هذه البركة مباشرة. فسلوك المريد هو «وسيلة» إظهار الكرامات، أما «مصدر» و «أصل» هذه الخوارق فهي روحانية شيخ الطريقة المُستَمَدّة بدورها من روحانية الرسول ﷺ الذي وهبه الله عز وجل ما لم يعطِ أحداً. ولذلك لا ينسب الدرويش الواعي روحياً ما يحدث على يده من كرامات لنفسه، وإنما يعزوها إلى شيخه. وكلما سمت درجة المريد وازدادت بركته، رأيته يزداد تواضعاً وإصراراً على وصف نفسه بأنه أصغر الدراويش وأبسطهم.
وقد أعطانا سلوك شيخنا درساً كبيراً هنا. فكثيراً ما سَرَدَ الحضور في مجلسه كرامات له شهدوها أو حدثت لهم أو لغيرهم، كظهوره لمريض في المنام وشفائه من مرضه أو غير ذلك من خوارق العادات. ولكن حين تُذكَر هذه الكرامات أمامه وتُنسَب إليه فإنه يقول «أستغفر الله»، ويعقّب قائلاً «هذه بركة الرسول ﷺ»، أو «هذه كرامات المشايخ»، أو غيرها من العبارات التي تُبعد نسبة الكرامة إليه لتنسبها إلى أساتذته. وكان الشيخ عبد الكريم يفعل الشيء نفسه حين تٌذكر أمامه كراماته، وهذا الأدب الجم هو حال كل مشايخ الطريقة. فإذا كان شيخ الطريقة يخجل من نسبة الكرامة إلى نفسه، رغم أن شهودها رأوه رأي العين يقوم بها، فكيف يجب أن يكون حال مريد الشيخ؟
فاغترار الدرويش بالكرامة ونسبتها إلى نفسه بدل شيخه يؤذيه روحياً، فإذا لم يتدارك نفسه ويصحح خطأه فإنه يفقد تلك البركة، بل ويمكن أن يفقد حتى إيمانه. وبشكل عام، إن عصيان المريد للشيخ ومخالفته لأمره يؤدي إلى سلب بركة المريد، لأن بركته هي من شيخه، والشيخ لا يأمر إلا بالمعروف ولا ينهى إلا عن المنكر. وهنالك الكثير من هذه الحوادث في تاريخ التصوّف، ومنها ما وقع لخليفة اسمه «رضا» عاصر الشيخ حُسَين ومن بعده الشيخ عبد الكريم. كانت لهذا الدرويش بركة كبيرة فعندما يخرج للإرشاد في مدينة السليمانية في شمال العراق، ويدق طبلة الذكر، كانت الحيوانات البرّية من ذئاب وثعالب وغيرها تتبعه والدراويش الذين معه في كل منطقة يمرّ بها. فكان يُرى مع مئتين أو ثلاثمائة من الدراويش وعدد من تلك الحيوانات البرية التي تصاحبهم وكأنها هي الأخرى تستمع لإرشاده وتنصت له. وفي طريق عودة الخليفة رضا من رحلة الإرشاد، يتركه كل حيوان في المنطقة التي صاحَبَه فيها. ومن مظاهر البركة التي أعطاها مشايخ الطريقة لرضا أنه كان مُستَجاب الدعاء في الإرشاد، فشُفِيَ الكثير من المرضى الذين دعا لهم، وحصلت على يديه غير ذلك من الكرامات التي كانت تجلب الناس إلى الطريقة وتحببها لهم. وأصبح أكثر سكان منطقة شَهْرَزُور مريدين كَسْنَزانيين على يديه.
وكانت هذه البركة نتيجة حب رضا لشيخه وإخلاصه له. فحين كان يأتي لزيارته في كَرْبْچْنَه، كان يبدأ من أطرافها بالحبو على يديه وقدميه حباً واحتراماً للشيخ. ولكنّ الغرور تسلّل تدريجياً إلى قلبه ونسي أنه درويش كل ما لديه من بركة هي من شيخه. وأخذه الغرور بنفسه حتى أنه بدأ يكتب الأدعية للناس، رغم أن الشيخ لم يجزه بكتابة الأدعية، إذ أن للطريقة الكَسْنَزانيّة أذكار خاصة فيها كل ما يحتاجه الإنسان من البركة، كما سنرى في الفصل التاسع عشر. كما سوّلت له نفسه اختلاس بعض تبرّعات الناس للطريقة، لأنه أخذ يعتقد بأن البركة التي كانت تظهر عليه هي خاصّة به ولا علاقة لها بشيخ الطريقة وأنه هو سبب هذه العطايا، فبرّر هذا الطمع لنفسه.
وفي ظهر أحد الأيام شاهد الشيخ عبد الكريم شيخه السلطان حُسَين في المنام يخبره بأن الخليفة رضا كان في طريقه لزيارة كَرْبْچْنَه، وأن لديه كذا مبلغ من مال الطريقة ولكنه قد اختلس منه كذا مقدار. وكشف له بأن النقود التي جلبها للتكية كانت في منديل أحمر وأخبره بعدد الأوراق المالية من كل فئة، وأمره بأن يعيد إليه النقود وأن يطرده من الطريقة. فلما استيقظ الشيخ عبد الكريم سأل إن كان رضا قد جاء، فقيل له بأنه لم يأتِ. ولم تكن في ذلك الزمان في تلك المناطق والقرى الجبلية النائية وسائل اتّصال تمكّن الناس من معرفة ما إذا كان شخص من منطقة أخرى قادماً من غير موعد. بعد ذلك ذهب الشيخ عبد الكريم إلى بستان شاه الكَسْنَزان وصلّى العصر هنالك، وسأل بعد الصلاة إن كان رضا قد وصل، فكان الجواب مرة أخرى بالنفي. ولكن بعد قليل بدأت تُسمَع من فوق الجبل المطل على كَرْبْچْنَه أصوات طبلة لزوّار من الدراويش، وبعدها وصل الخبر بأن ضارب الطبلة كان الخليفة رضا الذي كان الشيخ ينتظر وصوله. فلمّا وصل وسلّم على الشيخ قال له بأنه قد جلب هديّة للتكية، ولكن الشيخ ردّها وقال له بأن يحتفظ بها. وكشف له الشيخ مقدار المبلغ الذي جلبه والمبلغ الذي سرقه من هدايا الناس للتكية، وأخبره بأن علامة صدق ما يقول بأنه قد وضع النقود في منديل أحمر وكشف له عدد كل فئة نقدية منها. وطرد الشيخ عبد الكريم هذا الدرويش، فكانت هذه آخر زيارة له للشيخ. وسُلِبَ إيمان رضا وسُحِبَت منه كل البركة التي كانت عنده. وبعد أن كانت له مكانة كبيرة بين الناس، انتهى به الحال إلى الموت في الشارع، ولا يُعرَف اليوم حتى قبره. وحتى أرملته نسته كما نساه الناس وتزوجت من بعده، ولم يبقَ من أخباره إلا تفاصيل انحرافه عن الطريق ونهايته المؤسفة.[1]
ولنستشهد بمثال آخر من عهد الشيخ حُسَين. كان هنالك رئيس عرفاء اسمه «حسن» يعمل آمراً لمخفر الشرطة على جبل سه گرمه، حيث كانت في ذلك الوقت مخافر للشرطة على طريق القوافل. في صباح أحد الأيام كان حسن يصيد على الجبل من جانب كَرْبْچْنَه حين شاهد ثعلباً يصعد الجبل قادماً من اتجاه القرية. وحين اقترب الثعلب لاحظ بأن في فمه قطعة كبيرة من خلية عسل. ثم ترك الثعلب خلية العسل في مكان هنالك وعاد، فنزل حسن إلى مكان العسل، فرآه نظيفاً وبدا له شهياً، فأكل منه وأخذ الباقي معه وعاد إلى المخفر.
بعد فترة قصيرة طرأ على رئيس العرفاء حالٌ خاص جعله لا يعي ما يفعل، فترك سلاحه في المخفر وغادره وبدأ بنزول الجبل باتجاه كَرْبْچْنَه. حين سأله رفاقه في المخفر عمّا به، لم يرد عليهم. وذهب حسن لزيارة السلطان حُسَين، ولما سأله الشيخ عن سبب مجيئه أجابه بأنه لا يدري. ثم أعطاه الشيخ البيعة وأمره بدخول الخلوة لمدة أربعين يوماً، وبعد أن أكملها، أمره الشيخ بأن يختلي أربعين يوماً أخرى. فلما تأخّر حسن عن زيارة عائلته في كركوك، أخذت زوجته بالسؤال عنه، فجاءها الخبر من المخفر بأن زوجها ذهب إلى كَرْبْچْنَه ولم يعد.
أخذت الزوجة أولادها وذهبت إلى كَرْبْچْنَه، فوجدوا حسن في خلوته الثانية. وحاولت أن تقنعه بالعودة إلى عمله، خوفاً من أن يُسجَن ويُطرَد من الشرطة ويفقد مصدر رزقه، ولكنه رفض العودة وقال بإذن الله ستبقى تستلم راتبه وأنه لن يُقطَع. وذهبت الزوجة إلى سنگاو لاستلام راتبي زوجها فصُرِفَا بالكامل، وقال لها المسؤولون بأن لا تقلق على الراتب وعسى أن يعود حسن، ثم عادت إلى كركوك. وذهبت الزوجة مرة أخرى إلى سنگاو لاستلام راتب الشهر التالي، ثم زارت كَرْبْچْنَه لرؤية زوجها، فوجدته وقد انتهى من خلوته الثانية. فجعله الشيخ خليفة وأمره بالعودة مع عائلته وإلى عمله في الشرطة. بعد فترة من الزمن، ترك حسن عمله في الشرطة وبقي يرشد كخليفة.
ونتيجة مجاهداته وسلوكه، وصل حسن مراتبَ روحية وأصبحت له بركة واشتهر أمره. فكان معروفاً عنه أنه إذا طلب منه الناس أن يأتي لهم بشيء ما، مثلاً نوعاً معيناً من الطعام، كان يضع يده على الحائط ويقول «گُل حُسَين»، فيظهر الطعام بين يديه. وكلمة «گُل» الكردية تعني «وردة»، أي كان يستخدم هذا النداء للاستمداد من الشيخ حُسَين. ولكن بعد فترة انحرف حسن عن الطريق المستقيم، فسُلِبَت منه بركته، ونُسيَ شأنه، ولم يعد أحد يذكره أو يعلم ما حدث له.[2]
ويضرب شيخنا مثلاً في وصف حالة الذين تجري الكرامات على أيديهم أو يكونوا لها شهوداً ولكنّهم مع ذلك يضلّون عن الطريق. حيث يقول بأن هنالك من الناس في الطريقة من يغمره المشايخ بالكرامات ولكن مع ذلك لا يلتصق به شيء منها، مثل حجر الزِناد الذي لا يمتصّ شيئاً من الماء حين تغمره فيه.
إن الخطأ الرئيس الذي وقع فيه هؤلاء هو أنهم اغترّوا بما ظهر على أيديهم من الكرامات فجهلوا أنفسهم من بعد علم: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر/49). فمن بعد إدراكهم بأن كل بركّة حلّت بهم لم تكن من أنفسهم، وأنها أحوالٌ ومراتب أسبغها عليهم مشايخ الطريقة، استبدل الغرور علمهم هذا بجهل وضلالة. فحين فقدوا معرفتهم بأنفسهم أضاعوا الطريق ولم يعودوا سالكين. فالدرويش هو «العارف بنفسه»، وهذه المعرفة بالنفس شرط أساسي لكي يصبح المرء «عارفاً بالله»: «مَن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه». فلولا أن زلَّهم الغرور، لحافظ كل منهم على معرفته بنفسه، فمعرفته بشيخه، فمعرفته بربّه.
إن نتائج الخطأ الذي يرتكبه شخصٌ عاش الكثير من الكرامات ورأى بأم عينه ما يكلّ عن وصفه اللسان ويعجز عن فهمه العقل هي أسوأ من نتائج نفس الخطأ إذا ارتكبه من لم ينعم عليه المشايخ بمثل هذه الكشوفات الروحية. كما أن حالات سحب البركة التي ذكرناها والتي انتهت بضياع المريدين تشترك بشيء مهم، وهو أن الدرويش المخطئ أصرَّ على خطئه ولم يتراجع عنه. فلم يكن سبب ضلالته هفوة عابرة أو خطأ أقرَّ به حالما أدركه، وإنّما كِبْرٌ وإصرارٌ على الخطأ أوصلاه الهاوية.
ويستوجب موضع الحديث هنا التعريف بمفهوم مهم في التصوّف يُعرَف اصطلاحاً باسم «الحال». يشير «الحال» إلى حالات روحية متنوّعة تتجاوز عالم الظاهر، يسبغها الله على بعض عباده، وذلك عن طريق الرسول ﷺ وصولاً إلى شيخ الطريقة الحاضر الذي يهبها لمن يشاء من المريدين. فليس الحال اكتساباً من قبل الدرويش ولكن هبة من الشيخ. والحال قوّة روحية تأخذ أشكالاً مختلفة، وقد يكون الحال وقتياً، كأن يكون حادثة أو مشاعر أو تجربةً ما تمرّ بالدرويش، كما يمكن أن يكون أمراً مستمراً. فمن الأحوال ما هو قدرات روحية معيّنة يمنحها الشيخ للمريد وفقاً لاحتياجات الطريقة، فيكون لأصحاب الأحوال وظائف معيّنة في الطريقة، وتظهر آثار الأحوال أحياناً على شكل كرامات تحدث على يد أصحابها. فمثل هذه الأحوال هي بمثابة مراتب من الشيخ للمريدين. ومثلما يهب الشيخ مريداً ما حالاً معيّناً، فقد يغيّره إلى حال آخر، كما قد يسلب الحال من المريد إذا لم يعد أهلاً لتلك المسؤولية، كما شاهدنا.
[1] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 أيلول 2016؛ 4 كانون الأول 2013.
[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 حزيران 2000.