التصريف الروحي
لا تقع الكرامات فقط لمن يصاحب شخصاً قريباً من الله، لأنها أيضاً من وسائل تفضّل الله على من يشاء من عباده، والله يتفضّل على من يشاء من عباده، سواء استحقَّ العبد ذلك الفضل أم لم يستحقّه. فقد يرى شخصٌ مريضٌ الرسولَ ﷺ في المنام فيشفيه من مرضه، أو قد يزور ذو حاجة مكاناً مباركاً، كبيت الله الحرام أو ضريح أحد الأولياء، فتقع له فيه حادثة خارقة يقضي بها الله حاجته. ولكن مثل هذه الخوارق التفضّلية قليلة الحدوث، حيث تحدث لعدد صغير جداً من الناس، ويندر أن تقع لشخص أكثر من مرة في حياته. ومثل هذه الكرامات لا تشير بالضرورة إلى استحقاق من تحدث له، مثلما أن معظم ما يحصل عليه الإنسان من نِعَم هي برحمة من الله وليست استحقاقاً: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ (إبراهيم/35).
كما يمكن للعابد أن يحصل على كرامات وبركة نتيجة عباداته وتقواه، وهذا شيء يمكن أن يحصل للفرد حتى إذا لم يكن قد أخذ البيعة. ولكن هنالك مراتب روحية تجعل للعبد تصريفاً في عالم الأرواح، وهذه لا يمكن الوصول إليها إلا بسلوك منهج الطريقة. فمراتب الولاية مثل «الغَوْث»، و «القُطْب»، و «الوَتَد»، و «البَدَل» هي وظائف مخصصّة من قبل مشايخ الطريقة لعدد معيّن من المريدين السالكين، ليكون هؤلاء الأولياء عوناً للشيخ وتحت تصرّفه في إدارة أمور الطريقة الروحيّة. ويخاطب شيخنا الدرويش قائلاً: «باستثناء النبوّة، من الممكن لك أن تصل إلى أية مرتبة. ما عدا النبوّة، يمكن للمريد أن يصل حتى إلى درجة الغوثيّة»،[1] التي هي أعلى درجات التصريف الروحي. فلا يمكن الوصول إلى أي من درجات الولاية إلا بأخذ البيعة على يد شيخ حي يمثّل سلسلة مستمرة من المشايخ وصولاً إلى النبي ﷺ. وفيما يلي حادثة توضّح هذا الأمر.
كان أحد أقرباء شيخنا كثير العبادة، حتى أنه اختلى مرّة لمدة ستة أشهر في غرفته، وأوصد بابها ولفَّ نفسه بعباءة فلم يكن يرى بشراً أو حتى ضوءاً، وبقي مستمراً على العبادة. وكان أهله يتركون له وراء باب الغرفة الماء وقليلاً من الشوربة طعاماً له. وجعلته عبادته يسمع يوماً صوتاً وقت الفجر ينادي فوق بيته بأنه قد أصبح قُطْباً، وفي نهاية النداء أمره الصوت بأن يذهب إلى الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان في كَرْبْچْنَه. كان الصوت عالياً وواضحاً حتى بدا لهذا العابد بأن جميع أهل چَمْچَمال، حيث يسكن، سمعوا النداء. وفرح الرجل بما سمع، ولكن أبت نفسه أن تسمح له بأن يزور الشيخ عبد الكريم ويأخذ البيعة منه.
بعد ذلك قرَّر الرجل الذهاب إلى بغداد لزيارة مقام الشيخ عبد القادِر الگيلاني والبقاء هنالك. ولكن القائمين على خدمة الحضرة القادِريّة لم يعطوه مكاناً مريحاً لإقامته وعبادته. فطلب في قلبه العون من الشيخ عبد القادِر. فزاره الشيخ عبد القادِر في المنام ليلاً، وأمره أن يذهب إلى شخص اسمه «فتّاح»، يبدو أنه كان المسؤول الإداري عن الحضرة، ويقول له بأن الشيخ عبد القادِر يهديه السلام، ويأمره بأن يعطيه مكاناً مريحاً، وأن دليل صدق رؤياه هي أن فتّاح كان يأخذ لأهله كل يوم من أفضل قطع اللحم المُهدى إلى المقام لإطعام الزوّار.
ذهب الرجل في الصباح إلى فتّاح ونقل له ما أمره به الشيخ عبد القادِر، فلما سمع الكلام سقط على الأرض مغشيّاً عليه. وبعد أن ساعده الحضور على استرداد وعيه، اعترف فتّاح بصدق ما قاله الشيخ عبد القادِر من أخذه للحم مُهدى إلى الحضرة إلى بيته وأعلن توبته، ثم أعطى مكاناً مريحاً للرجل. واستمرَّ على هذه العبادة حتى وصل إلى مرحلة تثبيت وظيفة القطبية التي مُنحَت له في چَمْچَمال، فجاءه الشيخ عبد القادِر مرّة ثانية وأعاد عليه ما أمره به الصوت سابقاً، وهو أن ما يطلبه يجده في كَرْبْچْنَه فعليه أن يذهب هناك، ولكن نَفْس هذا الرجل العابد بقيت مكابرة لأمر الذِهاب لزيارة الشيخ عبد الكريم.
بعد انتهاء إقامة الرجل في الحضرة غادر بغداد عائداً إلى أهله، وفي الطريق بين چَمْچَمال وكَرْبْچْنَه، توقف في قرية «كاني كَه وَه» وقرأ القرآن أمام مقام الشيخ «معروف كوسته»، ابن الشيخ إسماعيل الوِلْياني. وبينما كان يقرأ القرآن سمع صوتاً من الضريح يأمره بالذهاب إلى كَرْبْچْنَه. فرفع القرآن بيده واقترب من الضريح وخاطبه قائلاً: «أجبني بحق هذا القرآن، هل هذا صوتك أم أن هنالك دخيل بيني وبينك»؟ أي كان يريد أن يتأكّد بأن ذلك الصوت لم يكن لأحد يريد أن يغويه مدّعياً بأنه الشيخ معروف. فجاء الرد من الضريح مؤكّداً بأن المتحدث هو الشيخ معروف وأعاد الأمر بالذهاب إلى كَرْبْچْنَه. ولكن كِبْر الرجل منعه مرة أخرى من تنفيذ الأمر، وبسبب تكبّره هذا سُلِبَت منه بركته. إذ روى بأنه شاهد يوماً يد رجل تدخل من ظهره وتخرج من بطنه، حتى أنه كان يرى الشعر على اليد، ثم انسحبت اليد، وبانسحابها ذلك سحبت معها كل البركة التي كانت عنده. وهكذا خسر مرتبة القطب التي كان مؤهّلاً لها لو أنه جاهَد نفسه وقَبِل بأخذ بيعة الطريقة من الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان، لأن هذه الوظائف الروحية لا توجد خارج الطريقة. ومن الدروس اللطيفة هو أن هذا الرجل روى قصّة خسارته لوظيفة الولاية حين زار يوماً الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد، أستاذ الطريقة بعد الشيخ عبد الكريم الذي كَبُرَت على نفسه زيارته! فبدل أن يطيع الأمر بزيارة شيخ الطريقة ويحافظ على بركته، ذهب لزيارته مُكرَهاً بعد أن فقد البَرَكة، بل وقصّ في زيارته تلك الخسارة.
وفيما يلي حادثة أخرى في هذا الخصوص. في عصر أحد أيام خلوة شيخنا الأولى في منتصف عام 1978، بعد ستّة أشهر من جلوسه على سجّادة الطريقة، نظر نحو مقامات المشايخ في كَرْبْچْنَه وطلب منهم أن يعطوا الدراويش أحوالاً وتصريفاً روحياً ليساعدوه في إدارة أمور الطريقة. في تلك الليلة شاهد أستاذنا الشيخ عبد القادِر الگيلاني يسلّم على درويش اسمه «محمود» في خلوته التي كانت تحت خلوة شيخنا بحوالي ثلاثة أمتار. وسمع شيخنا هذا الدرويش يقول بأنه لن يستمدّ بعد ذلك إلا من الشيخ عبد القادِر الگيلاني، أي ظنّ أن علاقته بالشيخ عبد القادِر لم تعد تمر عبر سلسلة مشايخ الطريقة التي يربطه بها أستاذه الحاضر. فلمّا رأى شيخنا اغترار هذا الدرويش برؤية الشيخ عبد القادِر، توجّه مرّة أخرى نحو مقامات المشايخ وخاطبهم قائلاً بأنه لن يطلب منهم هكذا طلب بعد هذا، وسيترك لهم تقرير ما يريدون لأنهم أعلم. أما محمود، فإن جهله بأن زيارة الشيخ عبد القادِر له لم تكن إلا استجابة لطلب شيخنا جعله يغترّ بنفسه، وحاول بعد ذلك تغيير صيغة أحد الأوراد التي أعطاها شيخنا لدراويش الخلوة (انظر القسم 19-3)، واستمر على غروره حتى أنتهى به الأمر بالطرد من الطريقة. وللأسف هنالك حالات أخرى شبيهة لدراويش أعطاهم مشايخ الطريقة بركة فأنساهم الشيطان أن هذه البركة وصلتهم عن طريق مشايخهم، فشطّوا وضلّوا السبيل.
ومنح المشايخ إحدى درجات الولاية للدرويش يعني فتح قناة تواصل روحي بين الشيخ والمريد أياً كانت المسافة المكانية بينهما يوصل من خلالها الشيخ إلى الولي ما يريده من أشغال للطريقة. وفيما يلي إحدى كرامات شيخنا التي تخصّ أحد كبار الأولياء اسمه «أحمد مُحَمَّد أمين» (رحمه الله). ففي بداية تسعينيّات القرن الماضي، سافر شيخنا من مكان سكنه في بغداد في زيارة لكركوك، وغادر معه بعض المريدين من شمال العراق الذين كانوا في التكية الرئيسة في بغداد لزيارته. حين وصل إلى التكية الرئيسة في كركوك جاءته دعوة لحضور احتفال بمولد النبي ﷺ في اليوم التالي في مدينة الدُور التي تبعد حوالي 150 كيلومتراً. فطلب من أحد مساعديه أن يختار حوالي عشرة مريدين ليرافقوه لحضور المولد. وألقى في وقت وِرْد العصر[2] موعظة عن الأمور الروحية في الطريقة ذكر فيها ما يلي: «من الدراويش من يمكن أن ينادي من هنا على دراويش في شَهْرَزُور فيسمعوا نداءهم»، علماً بأن المسافة بين شَهْرَزُور في محافظة السليمانية والتكية في محافظة كركوك حوالي مئتي كيلومتر.
في صباح اليوم التالي، جاء أحمد مُحَمَّد أمين إلى تكية كركوك، فوجد درويشاً يعرفه اسمه «قادر مُحَمَّد محمود» من الذين جاؤوا مع شيخنا من بغداد إلى كركوك وحضروا موعظة وِرْد العصر. وكان أحمد يثق بأن قادر لا يفشي السر، فسأله همساً إن كان قد حدث أمر ما. فلما رد هذا مستفسراً عن هذا السؤال الغامض، أجابه أحمد قائلاً:
كنت يوم أمس في بغداد مع الشيخ وأخذت منه قبل سفره إلى كركوك الرخصة للعودة إلى أهلي في السليمانية. ولكن بعد وصولي إلى شَهْرَزُور ناداني عصراً ثلاث مرّات قائلاً: «تعال يا أحمد»! فلابدّ أن هنالك أمر ما. ولكني لم أستطع أن آتي يوم أمس لأن الطريق يُغلَق في المساء (بسبب الصراع حينئذ بين الحكومة المركزية والثوار الأكراد في كردستان العراق)، فانتظرت حتى الصباح حين استقلّيت أوّل سيارة وأتيت لأرى ما يريد مني الشيخ.
ففهم قادر السؤال، فأجابه بأن شيخنا أراد اصطحاب عدد من الدراويش لحضور مولد في ذلك اليوم، فيبدو أنه أراد أن يكون أحمد منهم فاستدعاه إلى التكية في كركوك. ومن المُلاحَظ في هذه الكرامة تشابهها مع كرامة نداء الخليفة عمر بن الخطّاب على القائد سارِية.
وفي تاريخ الطريقة الكَسْنَزانيّة عدد لا حصر له من كرامات قام بها خلفاء ودراويش أو حدثت لهم تبيّن الدرجات والوظائف الروحية الرفيعة التي حصلوا عليها، وهي حقيقة تبيّن بدورها المكانة الرفيعة والفريدة لمشايخ الطريقة الكَسْنَزانيّة. ويجب أن نؤكّد بأن مراتب الولاية في الطريقة ليست مقصورة على الرجال، ولكنها في متناول النساء أيضاً. فمثلاً كان كل أولاد شاه الكَسْنَزان، الأبناء والبنات، من الأولياء.
وبسبب حب الله لأوليائه ومكانتهم عنده، فإنه عز وجل عدو من يعاديهم. وقد مرّ بنا قوله في حديثه القدسي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»،[3] قبل أن يستطرد في ذكر الخوارق التي يمكن أن يهبها لأوليائه. ولذلك فإن الجهل بأولياء الله والبعد عنهم أسلم للمرء بكثير من القرب منهم ومعاداتهم، علناً أم سراً. وهنالك عدد لا حصر له من الكرامات التي تصدّق حديث ربّ العزّة، ونذكر هنا منها مثالاً. في وقت متأخر من إحدى ليالي الصيف كان الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان جالساً في باحة مسجد كَرْبْچْنَه وفي صحبته قريب له حين نادى فجأة خادمه مُحَمَّد أمين وطلب منه أن يجلب ملقط الفحم وفانوساً. وأشار السلطان عبد القادِر إلى قدمه، فقرّب مُحَمَّد أمين الفانوس منها فرأى تحتها عقرباً كبيراً ميّتاً، فطلب الشيخ منه أن يرميه بعيداً. ثم التفت إلى جليسه معلّقاً: «إن أي شيء يقترب من الأولياء يريد أذاهم هو الذي يناله الأذى».[4]
كما ذكرنا في بداية هذا الفصل، إن الكرامات هي المِداد الذي تُكتَبُ به تفاصيلٌ كثيرة من سيرة مشايخ الطريقة، ولذلك فإن دراسة حياة أي شيخ من مشايخ الطريقة تعني التعرّف على كراماته.
[1] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 21 حزيران 1990.
[2] «ورد العصر» هو أحد أذكار الطريقة، انظر القسم 19-3-2.
[3] البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 6273، ص 493.
[4] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 18 كانون الأول 2018.