13 العبادة وقيام الليل

الفصل 13

العبادة وقيام الليل

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان أثناء الصلاة، ربما في السليمانية، (ربما 2001-2005)

لِنَقُل بأنّ بين وقتِ نومِك وصلاة الصبح هنالك خمس ساعات. أعطِ ثلاثَ ساعاتٍ أو أربعَ ساعاتٍ لنفسِك وأعطِ ساعةً لله، ساعةً لقبرِك، ساعةً لطريقتِك. قُمْ، تَوضَّأ، وصَلِّ بضعَ ركعاتٍ. تَوَجَّه إلى الله، إبدأ بالعبادة، بذِكْرِك، بأورادِك، حتى يُأذِّنُ المؤذِّن. صَلِّ صلاةَ الصُّبْحِ رَكعتان سُنَّةً، لأن هاتان الركعتان عند الله سبحانه وتعالى، كما يقول الرسول، هما «خَيْرٌ مِنْ اَلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . هاتان الركعتان هما سُنَّة الرسول قبل صلاة الصبح. ثم تصلّي الصبح، ثم تكمّل أورادَك. ثم تنام قليلاً، ثم تستيقظ لتذهب إلى العمل. واشتغل بعملِك إلى أن يؤذَّن لصلاة الظهر، فصلِّ الظهر، وهكذا. فقيامُ الليل واجبٌ ضروريٌ على المريد. المريد الذي ليس لديه قيامُ ليل لا يَصِلُ الى هذه النتائج. ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الْمُزَّمِّلُ 2)، ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾‏ (الإسراء 79).

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 9 أيلول 2013)

كان الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد يحبّ الذكر والصلاة والعبادات بشكل عام حُبّاً جَمّاً. وكان يحثّ الدراويش على العبادة ويحبّبها إليهم. ورغم أنه إذِنَ للطلاب بإعطاء دراستهم الأسبقية على أذكارهم خلال فترة الامتحانات على أن يعوِّضوا ما فاتهم في أوقات أخرى، فإنه أكّد على وجوب عدم قطع الصلاة. وكان يكرّر أحاديث النبي ﷺ في أهمية الصلاة وكونها عماد الدين.[1]

ولم ينقطع الشيخ عن الصلاة يوماً. وحين كان مستلقياً على فراش المرض، كان يقوم بما يتمكّن به من حركات الجسم في الصلاة. وحين كان لا يستطيع الحركة، مثلاً لأن هنالك أجهزة طبّيّة مربوطة بجسمه، فكان يقوم برأسه بحركات الصلاة.

كان شيخنا يعجَب لقلة نوم والده الشيخ عبد الكريم، ولكن بعد أن خلَفَه على سجّادة الطريقة بلّغه مشايخ الطريقة بأنه يجب أن لا ينام قبل أن يكمل صلواته وأوراده وتشرق الشمس. ويروي بأنه في بداية أمره كان يوماً قد أكمل أوراده قبل شروق الشمس بقليل فبقي جالساً على الكرسي ينتظر الشروق حين شعر بالنعاس. فأخذت رقبته بالتدلّي تدريجياً حتى لامس حنكه صدره، فإذا به يرى الشيخين حُسَين وعبد الكريم على يمينه وشماله يمسك كلٌ منهما بأحد ساعديه ويهزّاه هزّة شديدة ويقولا له: «ماذا تفعل؟»، وكأنه قد ارتكب ذنباً كبيراً، ففزّ مرعوباً. ويؤكّد أستاذنا بأنه لم يكن نائماً تماماً وإنما كان قد غشيه بعض النعاس حين حدث هذا.

كان الشيخ يحثّ الدراويش على التنافس في قيام الليل[2] ويصوّر لهم جمال هذه العبادة:

هنالك شيٌ مهمٌ للمريد الذي يريد الوصول إلى المراتب العليا في القضايا الروحية، وهو قيام الليل، ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾‏ (الإسراء 79). أنظر كيف يجب أن تضحّي يا مريد! كم جميل حين تقوم ليلاً وليس هنالك أحدٌ بينك وبين ربِّك، فتتوب وتستغفر ربّك. تتوضّأ وتسجد. لمن؟ للرحمن! تسجُدُ لخالقِك، تسجُدُ للذي بيده كل الأمور الدنيويّة والأخرويّة. تسجُدُ لهذا الخالق الذي خلقك. خلقَ كُلَّ شيءٍ وأحصاهُ. تسجُدُ له، ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب﴾‏ (العَلَق 19). كم جميل حين تسجُدُ، تقترِب من الله. أطلب بقلبك في سجودك، «أطلُبْني تَجِدُني».[3]

أما هو، فبقي يقوم الليل بشكل يومي حتى حين تجاوز الثمانين من عمره، وكان يكلّفُ نفسَهُ من العبادات ما يطيقه إلا النادر من الناس. فبعد أن يغادر مجلسه مع الناس، عادة بين منتصف الليل والواحدة صباحاً، يذهب إلى غرفته الخاصة ليأخذ قسطاً من النوم. ثم يستيقظ في حوالي الثانية والنصف، فيبدأ بالتجهّز لقيام الليل. فبعد الوضوء، يستبدل ملابس النوم ويمشّط شعره ويتعطّر وكأنه سيستقبل ضيفاً كبيراً. وكان يفسّر سلوكه هذا بالقول بأنه يجب على المرء أن يتهيأ لمقابلة الله عز وجل وهو في أجمل حال. وبعد أن يجلب له مساعده الشخصي بضع قناني ماء، يتركه وحيداً جالساً على السجّادة مستقبلاً القِبلة ليبدأ بعباداته وأذكاره. بعد أن قام بعملية زرع الكلى في 2010، لم يعد يستطيع الجلوس على السجّادة، فكان يقوم بعباداته هو جالس على كرسيّ.

ويستمر بأوراده حتى أذان الفجر. وبعد أن يصلّي الفجر، يعود لأذكاره ويستمر في العبادة حتى حوالي السابعة والنصف أو الثامنة، أي بعد شروق الشمس. وخلال خلوته اليومية هذه لم يكن يتحدّث إلى أحدٍ أو يتحدّث إليه أحدٌ على الإطلاق. وكانت يقرأ أوراده بصوت واطيء. ويروي عيسى، الذي كان مساعده الشخصي من عام 2004 حتى وفاته، بأنه أثناء قيامه الليل وانشغاله بذكر الله، كانت تبدو على الشيخ هيبة تجعله، رغم أنه مساعده الشخصي، يجد رهبة صعوبة في النظر إلى وجهه.

حين يذهب الشيخ لأخذ قسطٍ من النوم بعد إكماله لعباداته كان يبدو مرهقاً جداً وكأنه قام بعمل جسدي شاق لساعاتٍ طِوالٍ. كما يذكر عيسى بأنه حتى حين كان شيخنا نائماً لم يكن نومه عميقاً لأنه كان يسمعه حتى في نومه يستمد من المشايخ ويذكر الله كل حين وآخر. وبعد أن ينام لساعتين أو ثلاث، يستيقظ ليبدأ بعباداته ومسؤولياته اليومية في إدارة أمور الطريقة. وفي آخر مراحل حياته حدّدت حالته الصحية والعقاقير الطبّيّة التي يأخذها ما يمكنه القيام به.

وكان لا يفارق السبحة سوى في وقت النوم وعند الوضوء. فسواء كان جالساً لوحده للعبادة، يحدّث الناس عن الدين، يستقبل زواراً، أو في أي شأن آخر، لم تكن تراه إلا وسبحته في يده تدور مع دوران لسانه وقلبه بذكر الله. وحتى حين يأكل، كان غالباً ما يضعها في عنقه، وهو أمر كان يفعله أحياناً حين يخرج إلى الأسواق. وإذا انشغلت يداه بأمر ما جعلته يضع السبحة جانباً، كان يعود لأخذها في أسرع فرصة. وعند الحديث عن الذكر والتسبيح، كان أحياناً يذكر خبر الشيخ جُنيد البغدادي حين سأله أحدهم عن عدم مفارقته للسبحة، حيث قيل له، «أنتَ مع شرفِكَ تأخذُ بيدِكَ سبحَةً؟»، فأجابه هذا العارف بالله قدَّسَ الله سِرَّه، «طريقٌ به وصلتُ إلى رَبّي لا أفارقه».[4]

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في الصلاة، السليمانية (النصف الأول من العقد الأول من هذا القرن)

وكدأب مشايخ الطريقة الكَسْنَزانِيّة، كان الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد يشترك مع الدراويش في وِرْد العصر وحلقة الذكر. ولما كانت المشيخة هي درجة روحية خاصّة وفريدة، فإن للشيخ أذكاراً خاصّة به تختلف عن أذكار المريدين.

كانت لشيخنا أوراداً خاصة يقرأها من بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس، ويمشي خلال قراءتها، أحياناً من غرفة نومه إلى الباحة المجاورة إن وجدت، أو فقط داخل غرفة النوم، على قصر المسافة، إذا لم تكن هنالك باحة. ويبدو أن السير عند قراءة هذه الأذكار هو من متطلّباته: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران/191).

ومن عباداته الخاصة في بداية المشيخة، حين كان يسكن كركوك، هي صلاته لأربع ركعات قبل أذان الظهر بساعة واحدة. وكان دقيقاً جداً في الوقت، حتى أنه كان يقف على سَجّادة الصلاة دقيقة أو دقيقتين قبل وقت هذه الصلاة، وينظر إلى ساعته حتى إذ أصبح الوقت بالضبط ساعة قبل صلاة الظهر يبدأ بالصلاة. وحين يكون في مجلسه من لا يعلم بأمر صلاته اليومية هذه، كان ينبّههم قبل أن يبدأ بها أنَّ وقتَ صلاة الظهر لم يحن بعد، كي لا يظنوا خطأً أنه يصلّي صلاة الظهر.

وكانت له أورادٌ حين يقرأها لا يتحدث إلى أحد إلا إيماءً، ومنها ما يقرأها أحياناً بعد صلاة المغرب حتى وقت صلاة العشاء. وإذا لم يفهم الشخص ما يريده بإشاراته، كان شيخنا ينتظر إلى أن ينتهي من ذلك الذكر فيوضّح ما أراد بالكلام. وكان الشيخ عبد الكريم أيضاً ينقطع للعبادة بعد صلاة المغرب، فكان مساعده الشخصي يتركه لوحده ولا يعود إلا حين يقارب الشيخ على الانتهاء من أوراده.

ويروي الشيخ سامان، زوج أخت شيخنا وأخو زوجته، الذي كان يضطره ضيق المكان أحياناً إلى المبيت في غرفة نوم الشيخ في بيته في كَرْبْچْنَه أن أستاذنا كان عادة يقرأ سورة يس حين يذهب إلى الفراش للنوم. ومن غرائب ما لاحظه أنه حين كان شيخنا يغفو أحياناً وهو يقرأ السورة فإنه حين يستيقظ يعود إلى إكمال السورة من الآية التي كان قد قرأها قبل أن يغفو!

وفيما يلي إحدى التجارب الروحية الخاصة التي أخبرنا عنها شيخنا والتي تبيّن التحام ذكر الله بظاهره وباطنه. حين قرّر أن يقوم بعملية زرع كلى في عام 2010 في أمريكا، أخبره مشايخ الطريقة قبل العملية بأنهم قد أجروا له العمليّة في مستشفاهم الروحي ولذلك فإن العمليّة في مستشفى العالم الظاهر ستكون ناجحة. وبعد أن استيقظ من تخدير العملية وجد ظاهره يقرأ آخر آيتين من سورة التوبة: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (١٢٨) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (التوبة/128-129)، فيما وجد باطنه يقرأ آيتي دعاء النبي يونس واستجابة الله له: ﴿لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿٨٧﴾ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنبياء/87-88). ونادى النبي يونس بهذا الدعاء حين كان في بطن الحوت، بينما كان باطن شيخنا يقرأ هاتين الآيتين وهو تحت تأثير المخدِّر، ويبدو هنالك وجه تشابه في وجود النبي يونس في غياهب حوت عزلته وحواسَّه وقتياً عن محيطه الطبيعي، ووجود شيخنا في حالة تخدير عزلت ظاهره وقتياً عن العالم.

[1] الترمذي، الجامع الكبير، ج 4، ح 2616، ص 363.

[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 كانون الأول 2005.

[3] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 3 تشرين الأول 2013.

[4] القشيري، الرسالة القُشيرية، ص 80-81.