الطاعة في الصُّحْبة
إن الصُّحْبة على الطريق إلى الله هي علاقة ذات شروط خاصة، أهمّها طاعة المُصاحِب للمُصاحَب. ولذلك أمَرَ الله بأن تكون طاعة المسلم للنبي الكريم ﷺ مطلقة:
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (الحشر/7).
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب/٣٦).
وبدون هذا التسليم لا يجني المريد من الصُّحْبة كل فوائدها، ولذلك أمر الخَضِر موسى بالتسليم: ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ (الكهف/70)، فلما فشل موسى في إطاعة الأمر واعترض ثلاث مرات على أفعال من طَلَبَ صُحبَتَه، أنهى الخَضِر هذه الصُّحْبة: ﴿هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ (الكهف/78). وقال النووي في تعليقه على قصة موسى مع الخَضِر: «وفي هذا الحديث الأدب مع العالِم، وحرمة المشايخ، وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لا يُفهَم ظاهره من أفعالِهم وحركاتهم، والوفاء بعهودهم، والاعتذار عند مخالفة عهدهم».[1] ويقول أستاذنا بأن السالك يجب أن يكون أمام شيخه المرشد كالميت أمام الغاسل، فمثلما لا يقاوم الميت يَدَي غاسله وهما تقلّباه، كذلك يجب أن يكون المريد في طاعته لما يأمره شيخه لكي ينتفع من قيادته لمسيرته الروحية.
وسر وجوب الطاعة في علاقة الصُّحْبة هو أن المتبوع ذو علمٍ لَدُنّي لا يدركه التابع، فأفعال المُصاحَب من أوامر ونواهي تنبع من هذا العلم الخفي على غير أهله: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ (الكهف/82). وإلى هذا العلم اللَّدُنّي اللطيف أشار الرسول الكريم ﷺ حين قال: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِهِ مِنْ بَابِهِ».[2] وهذا الحديث الشريف يعني بأن الإمام علي بن أبي طالب هو الخليفة الروحي للنبي ﷺ، واستمرت هذه الخلافة الروحية وتوارث العلم اللَّدُنّي في سلسلة مشايخ الطريقة الذين اختار كل منهم خليفته بهدي من الله، وستستمر إلى يوم الدين.
والطاعة في الصُّحْبة حقٌّ على الجميع، كما شاهدنا في اختبار الله لكليمه موسى مع الخَضِر. وهكذا حال كل شيخ طريقة، فإنه مُلزَم باتّباع ما يوجّهه به النبي ﷺ ومشايخ الطريقة، ولذلك يقول أستاذنا بأن «الشيخ هو آلة روحية في أيدي مشايخ الطريقة من شيخه إلى حضرة الرسول ﷺ».[3] ومن الأمثلة التي يضربها أستاذنا لتقريب هذه الفكرة إلى ذهن المريد قوله بأنه إذا أمره مشايخ الطريقة يوماً فجأة بالسفر إلى مكان ما فإنه يتوجّه من فوره ومن غير حتى أن يقوم بالتجهيز لسفره. ومن الأمثلة على طاعة شيخ الطريقة الكاملة لأساتذته هي الحادثة التالية التي وقعت بعد فترة قصيرة من وفاة الشيخ عبد الكريم، وكان أستاذنا في حينها قد بقي في قرية كَرْبْچْنَه في محافظة السليمانية لفترة طويلة نسبياً. ففي حوالي الساعة التاسعة من صباح أحد الأيّام أرسل في طلب الدرويشة المسؤولة عن مطبخ التكية، وهي إحدى أخواته. وأخبرها بأنه والعائلة والضيوف والدراويش الزائرون سيغادرون كَرْبْچْنَه إلى كركوك، حيث كان سكنه الدائم حينئذ، وطلب منها أن تتهيأ لذلك. وفعلاً قامت مع العاملين على خدمة التكية بالتهيؤ للعودة إلى كركوك، بما في ذلك تحميل معدات المطبخ وغيرها على السيارات لنقلها. وفي حدود الساعة الحادية عشر والنصف صباحاً أرسل شيخنا في طلبها مرّة أخرى، فلما حضرت وجّهها هذه المرّة بإنزال كل الحاجيات وتجهيز طعام الغداء لأن السفرة قد أُلغِيَت! وتفاجأت الدرويشة بهذا التغيير فكان ردّ فعلها العفوي أنها وضعت يديها على رأسها في حركة تبيّن حراجة الموقف الذي وجدت نفسها فيه وقالت: «كيف أستطيع أن أجهّز وجبة الغداء في هذا الوقت المتأخر»؟ فما كان جواب شيخنا إلا أن وضع هو الآخر يديه على رأسه الشريف مجيباً: «وما الذي أستطيع أن أفعله أنا إذ قالوا لي صباحاً أن أعود إلى كركوك وأبلغوني الآن أن أبقى في كَرْبْچْنَه»؟
ونرى هنا تنفيذ شيخنا لأوامر المشايخ من غير تردّد أو حتى استفسار عن سبب الأمر. إنّ معظم أوامر النبي ﷺ ومشايخ الطريقة من عالم الروح إلى ممثّلهم في عالم الظاهر هي واردات روحيّة خاصّة لا يبوح بها شيخ الطريقة، إلا إذا كانت هنالك ضرورة لكشفها.
وكل من رافق أستاذنا عن قرب شهد الكثير من هذه السلوكيّات التي تجسّد وصفه لنفسه بأنه آلة في أيدي مشايخه يحرّكونه كيفما يشاءون. كان أحياناً يتجهّز للسفر من مدينة لأخرى، فترى السيارات والحاجيات والمرافقين جميعاً جاهزين بانتظار الإيعاز من شيخنا الذي هو الآخر في انتظار أمر المشايخ بالسفر. ولكن أحياناً ينتهي الانتظار بإلغاء السفر وكل الخطط المرتبطة به! وفي سياق الحديث عن ضرورة الطاعة، قال شيخنا بأنه بعد جلوسه على سجّادة المشيخة أمره مشايخ الطريقة يوماً بأن يتوقّف عن أكل فخذ الدجاجة، فلم يقربه من ذلك اليوم، وأطاع الأمر من غير أن يسأل عن السبب.[4]
وفيما يلي بعض من أقوال الشيخ عبد القادِر الگيلاني حول أهمية الصُّحْبة وضرورة قرنها بالطاعة للوصول إلى الله:
«اسمع وانظر بقلبك من غير تُهمة، ثم انظر ماذا ترى من العجائب. أزل التهمة للقوم وصدّقهم وآمن لهم بلا لِمَ وكَيف. استصحبوك معهم ورضوك لخدمتهم وأخرجوا لك سهماً مما تنزّل عليهم. النِعَم والمنن تنزِل من السماء على قلوب الصدّيقين، ومواردُ الأسرارِ تنزل على أسرارهم في الليل والنهار. إن أردتَ أن يرْضَوكَ لخدمتهم فطهّر ظاهرك وباطنك؛ قِف بين أيديهم؛ طهّر قلبك من البِدعة، فإن القوم اعتقادهم هو اعتقاد النبيين والمرسلين والصديّقين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. هم سلفيّون، مذهبهم مذهب العجائز. ما يدعون قَسَماً إلاّ ولهم على دعواهم شاهِد».[5]
«يا قعوداً في البيوت والصوامع مع النفس والطبع والهوى وقلّة العلم، عليكم بصحبة الشيوخ العمّال. اتبعوهم واتركوا أقدامكم خلف أقدامهم. ذلّوا لهم، اصبروا على كَسرهم، حتى تزول أهويتكم وتنكسر نفوسكم وتنطفئ نار طباعكم».[6]
«إذا صحت صُحْبة المريد للشيخ، لقَّمه ورزقه مما في قلبه طعام المعرفة وشرابها».[7]
ولنتوقّف وهلة عند قول الشيخ عبد القادِر «النِعَم والمنن تنزِل من السماء على قلوب الصدّيقين، ومواردُ الأسرارِ تنزل على أسرارهم في الليل والنهار» لشرح مفهوم «السِّرّ» الذي يميّزه عن «القلب». يشير هذا التعبير إلى جزء خفي من الإنسان ينشأ ويتطوّر بقربه من الله سبحانه وتعالى. ويبيّن الشيخ في موضع آخر خصوصيّة السِّرّ حين يقول بأن «أهل السِّرّ كانوا في قديم الزمان قليلين، وهم اليوم أقلّ من كل قليل»،[8] أي ليس السِّرُ موجوداً أو أنه ليس فعّالاً في كل نفسٍ بشرية كباقي مكوّناتها، ولكنه كيان خاصاً ينمو بالقرب من الله عز وجل ويصبح وسيلة تلقي لكشوفات ومخاطبات ربّانية خاصّة: «لايزال المؤمن يخاف حتى يُعطى سِرّه كتابَ الأمان، فيُخبّأه عن قلبه ولا يُطلعه عليه، وهذا لآحاد أفراد».[9] ويتكرّر كثيراً ذكر هذا المصطلح والمفهوم وتمييزه وظيفةً حتى عن القلب في كلام الشيخ عبد القادِر، كما في هذين المثالين:
«ثقل الزهد على البُنية، وثقل المعرِفة على القلب، وثقل القُرْب على السِّرّ».[10]
«المؤمن له ثلاث أعين: عين الرأس ينظر بها إلى الدنيا، وعين القلب ينظر بها إلى الآخرة، وعين السِّرّ ينظر بها إلى الحق عز وجل. عين الرأس تفنى مع الدنيا، وعين القلب تفنى مع الآخرة، وعين السِّرّ تبقى مع الحق عز وجل في الدنيا والآخرة لأنها ناظرة إليه دنيا وآخرة».[11]
وهذا السِّرّ هو المقصود في التعبير الصوفي «قَدَّسَ الله سِرَّه» الذي يُذكَرُ حصراً بعد أسماء كِبار الأولياء، لأنه إقرار بأنهم من «أهل الأسرار»، أي من خواص المُقرَّبين منه سبحانه وتعالى. فتعبير «قَدَّسَ الله سِرّه» ليس كالأقوال الدارجة مثل «رحمه الله» أو «بارك الله مثواه» التي يمكن أن تُطلَق على معظم الناس من قبيل الدعاء لهم، ولكنّه وصفٌ حصري يعكس مكانة خاصّة من القرب من الله سبحانه وتعالى، حيث يشير إلى تطهير وتنزيه الله لسِرّ ذلك الولي الكريم.
ومن يصل هذه الدرجة من القرب من الله يكون مباركاً، كما وصف الله عزّ وجلّ عيسى عليه السلام: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ (مريم/31). ففي القرب من أهل السرّ ومصاحبتهم بركة، بل تشمل هذه البركة حتى حاجياتهم الشخصية، وكما علّمنا الله حين جعل ردّ بصر نبيّ ببركة قميص نبي آخر: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (يوسف/٩٣).
ومن جميل ما قيل في صُحْبة وطاعة الشيخ هو هذه الأبيات من قصيدة «النادِرات العينيّة» للشيخ عبد الكريم الجيلي، أحد أحفاد الشيخ عبد القادِر الگيلاني:
وإن ساعدَ المقدورُ أو ساقك القضا إلـى شيـخِ حـق فـي الـحـقـيـقة بارِعُ
فــقُـمْ فــي رِضاهِ واتّــبـِـع لــمــرادِهِ ودَعْ كلَّ ما مـن قـبلِ كنتَ تصانِـعُ
وكُـنْ عـنـدَهُ كالمـيِّـتِ عنـد مُـغسِّلٍ يُـــقــلِّـــبُـــهُ ما شاءَ وهـــوَ مُــطاوِعُ
ولا تعتَرِضْ فيما جَهَلتَ من أمْرِهِ عـــلـيــه فـــإنَّ الاعْــتــراضَ تَــنازِعُ
وسـلِّـم لَــهُ مــهـما تـراهُ ولـو يـكُـنْ عــلـــى غــيـرِ مـشـروعٍ فــثمَّ مُـخادِعُ
فـفي قِـصّـة الِخـضْرِ الكريمِ كــفايةٌ بـقَـتْـلِ الـغــلامِ والكـــلـيـمُ يــدافِـعُ
فـلـما أضاءَ الصّبحُ عن ليـلِ سِـرِّهِ وسَــلَّ حُــساماً لــلـمُـحاجِــجِ قاطِــعُ
أقامَ لــهُ الــعــذرَ الــكـــلــيـمُ وإنــهُ كــذلــكَ عِــلـمُ الــقـومِ فـيـه بـدائِـعُ[12]
وطاعة المريد لشيخه طاعة كاملة هي أولى مراتب الفناء الثلاث في الطريق إلى الله. فهذا «الفناء في الشيخ» يوصل إلى «الفناء في الرسول ﷺ»، والفناء في الرسول ﷺ يوصل إلى «الفناء في الله عز وجل»، وهو غاية الطريق. فطاعة شيخ عارف بالله تجعل السالك يسير على نهج النبي ﷺ، والسير على طريق الرسول ﷺ يؤدي إلى التسليم الكامل لمن أرسله عز وجل.
[1] النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، ج 15، ص 137.
[2] الطبراني، المعجم الكبير، ج 11، ح 11061، ص 66.
[3] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 أيلول 2016.
[4] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 أيلول 2016.
[5] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 10-11.
[6] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 11.
[7] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 9.
[8] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 11.
[9] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 26.
[10] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 24.
[11] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 47.
[12] الشيخ عبد الكريم الجيلي، النادرات العينية، ص 112-113.