تَزْكِية النفس
ليس الطريق إلى الله طريقاً ظاهرياً فحسب وإنما منهجاً روحياً، ولذلك فإن دور المرشد إلى هذا الطريق هو روحي خفي وليس فقط ظاهري ملموس مثلما هو حال دليل الطرق المادية. وقد صرّح الله بهذا في وصفه لدور الرسول ﷺ في إرشاد المسلمين:
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/١٥١).
فبالإضافة إلى تعليم مُحَمَّد ﷺ المسلمين من العلوم التي أنزلها الله عليه، تذكر الآية أيضاً دوراً آخر للرسول ﷺ غاية في الأهمية هو «تزكية» المسلمين. والتزكية هي تأثير روحي باطني يختلف عن التعليم العقلي الظاهري. فإضافة إلى حاجة السائر على الطريق إلى الله إلى مرشد عالم بالقرآن وبسُنَّة النبي ﷺ المُفسِّرة له يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، فإن المريد يحتاج أيضاً بأن تكون للمرشد بركة التزكية الروحية لتساعده في جهاده الداخلي لتطهير نفسه. وحال التزكية هذا هو سر ضرورة الصُّحْبة في الإسلام. ويقول الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في هذا الخصوص:
«فالطريق العملي الموصِل لتزكية النفوس والتحلي بالكمالات الخلقية هو صُحْبة الوارث المُحَمَّدي والمرشد الصادق، الذي تزداد بصحبته إيماناً وتقوى وأخلاقاً، وتشفى بملازمته وحضور مجالسه من أمراضك القلبية وعيوبك النفسية، وتتأثر شخصيتك بشخصيته التي هي صورة عن الشخصية المثالية، شخصية رسول الله ﷺ.
من هنا يتبين خطأ من يظن أنه يستطيع بنفسه أن يعالج أمراضه القلبية وأن يتخلص من علله النفسية بمجرد قراءة القرآن الكريم والاطلاع على أحاديث الرسول ﷺ. وذلك لأن الكتاب والسُّنّة قد جمعا أنواع الأدوية لمختلف العلل النفسية والقلبية، فلابد معهما من طبيب يصف لكل داء دواءه ولكل علة علاجها. فقد كان رسول الله مُحَمَّد ﷺ يطبّب قلوب الصحابة ويزكّي نفوسهم بحاله وقاله».
ثم يستشهد شيخنا بما جرى للصحابي الجليل أُبيّ بن كعب:
«كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ. ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ، فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ.[1] فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلاَةَ، دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ: «إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ». فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَرَءَا، فَحَسَّنَ النَّبِيُّ ﷺ شَأْنَهُمَا. فَسُقِطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلاَ إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ فِي صَدْرِي فَفِضْتُ عَرَقًا، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا».[2]
أي أن استحسان الرسول ﷺ للقراءتين المختلفتين جعل شكاً َوَصَلَ حد تكذيبه له يدخل قلبَ أُبيّ، فأدرك الرسول ﷺ ما حدث له، فضربه ضربة خفيفة على صدره طَهَّرَ بها قلبَه مما طَرَأً عليه:
«ولهذا لم يستطع أصحاب رسول الله ﷺ أن يطبّبوا نفوسهم بمجرد قراءة القرآن الكريم، ولكنهم لازموا مستشفى رسول الله ﷺ فكان هو المزكّي لهم، والمشرف على تربيتهم، كما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الجمعة/٢). فالتزكية شيء وتعليم القرآن شيء آخر. إذ المراد من قوله تعالى ﴿يُزَكِّيهِمْ﴾ يعطيهم حالة التزكية، ففرق كبير بين علم التزكية وحالة التزكية، كما هو الفرق بين علم الصُّحْبة وحالة الصُّحْبة، والجمع بينهما هو الكمال».[3]
تبيّن الآية الكريمة بأن تزكيته النفوس، حالها حال تعليمه المسلمين القرآن والكتاب والحكمة، ليست شيئاً اكتسبه الرسول ﷺ أو أسبغه على نفسه، وإنما هي أحوال وهِبات من الله. فبينما يمكن للناس دراسة وتدريس القرآن وعلومه، لأنها علوم تُكتَسَب بالنقل والعقل والموهبة، فإن حال التزكية هو أمر روحي خالص لا يؤخذ إلا بصحبة من أنعم الله عليه بتلك النعمة الخاصة. فهو بركة تحل من المُصاحَب على المُصاحِب فتزيده تعلقاً بالله وحباً له، وتُحبِّب إليه التقرّب إلى الله وتُكرِّهَ له الابتعاد عنه، وتسهّل عليه اتّباع أوامره والانتهاء عن نواهيه. فالشيخ المرشد هو من يجمع علم التزكية وحال التزكية، فيخاطب بذلك العلم عقل المُريد ويطبّب بذلك الحال قلبه وروحه.
وهنالك لطيفة في القرآن الكريم في تفسير دور النبي ﷺ في تلاوة الكتاب على الناس وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة. يخبرنا القرآن الكريم عن دعاء النبي إبراهيم الذي تحقّق في مُحَمَّد ﷺ: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة/129)، ولكن حين يكون الله هو المتكلّم عن وظيفة النبي ﷺ هذه في إرشاد الناس في ثلاث آيات أخرى (البقرة/151، آل عمران/164، الجمعة/2)، نجده يقدّم فعل التزكية على تعليم الكتاب والحكمة، كما في هذه الآية على سبيل المثال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الجمعة/2). وفي هذا تأكيد إلهي لطيف على أهمية التزكية المُحَمَّدية في تأهيل المسلم روحياً. وهكذا فإن التزكية الروحية، التي لا تحدث إلا بالصُّحْبة، هي من أهم وظائف النبي ﷺ وكل من يخلفه روحياً.
إن مصدر البركة الروحية لصحبة الرسول ﷺ هو النور الذي جعله الله فيه: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ (المائدة/15). وهذه الآية الكريمة ذات شطرين يبدأ كلٌ منها بتعبير ﴿قَدْ جَاءَكُم﴾ ليشير إلى الرسول ﷺ والقرآن الكريم. ويذكر الشطر الأول مُحَمَّد ﷺ «صراحةً»، في قوله ﴿رَسُولُنَا﴾، والقرآن «ضمنياً» لأنه كشف الكثير من الوحي الكتابي السابق الذي أخفاه أهل الكتاب، وهو قوله ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾. ثم يعود الشطر الثاني ليؤكّد إرسال الله للنبي ﷺ والقرآن الكريم، فيشير هذه المرّة «ضمنياً» إلى الرسول ﷺ بعبارة ﴿مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ﴾ وإلى القرآن الكريم «صراحةً» بعبارة ﴿كِتَابٌ مُّبِينٌ﴾.
فهذا النور هو سر حال تزكية النفوس الذي آتى الله رسولَه الكريم ﷺ. وبوراثتهم لهذا النور، يرث مشايخ الطريقة حال تزكية النفوس الذي ينفعون به الدراويش الذين يُصاحِبوهم. ويبيّن الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان بأن من يصاحِب الشيخ ينتفع من هذا النور بأربع طرق: أن يكون قريباً من الشيخ، زيارة الشيخ إذا لم يكن قريباً منه، الحصول على أشياءٍ مباركة من الشيخ، ودخول حال المراقبة مع الشيخ عن بعد، أي جعل المريد للشيخ في قلبه. فصحبة الشيخ تنمّي النور في قلب المريد، فيقترب من الله، فيبدأ بتلقّي الكشوفات الروحية، وتحصل له الكرامات، ويصل إلى مرتبة الولاية: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس/62)،[4] فيحصل على ما يشير إليه الشيخ عبد القادِر الگيلاني بهذا الوصف البليغ: «ما لا عينٌ رأَت، ولا أذُنٌ سَمِعت، ولا خَطَر على قلب بشر»،[5] الذي وصف به الرسول ﷺ ما أعدَّ الله عز وجل لصالحي عباده.[6] والولي هو شخص مقرَّب من الله قد منَّ عليه ببركة روحية تظهر أحياناً على شكل أفعال خارقة للعادة. وسنتطرّق إلى مفهوم «الولاية» في الفصل الخامس.
وفي الآية الكريمة التالية إحدى لطائف القرآن الكريم التي تشرح أهمية الصُّحْبة الروحية وتؤكّدها: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ (النساء/102). فالمُلاحَظ هنا أمر الله عز وجل أن تصلي كل مجموعة من المسلمين مع النبي ﷺ، لأن الصلاة معه ليست كالصلاة مع غيره. فلو لم يكن الأمر كذلك لما أمر الله المسلمين بالتناوب على الصلاة مع النبي ﷺ، مما يعني بأنه صلّى عدد الجماعات التي أمّها في الصلاة، ولصلّت طائفة منهم معه حين يصلّي وصلّت بقية المجموعات من دونه. وتشرح لنا هذه الآية أيضاً فضل صلاة الجماعة بشكل عام، لأن في صلاة الجماعة ينتفع الأضعف حالاً روحياً بالأقوى.
كما يفسّر الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد بأن الصُّحْبة الروحية، التي تبدأ باللمسة الروحية للبيعة، التي سنتناولها في الفصل الرابع، هي أساس ارتقاء إيمان المرء من «تقليدي» إلى «حقيقي». والإيمان التقليدي هو الإيمان الذي يحمله المرء من غير دليل خبراتي مباشر على أُسسه الغيبية. وغالباً ما يكون الإنسان قد ورث هذا النوع من الإيمان من أهله والثقافة التي نشأ فيها، وقد يدعمُ هذا الموروثِ بحججٍ عقليةٍ تتباين في قوّتها. أما الإيمان الحقيقي فيكتسبه المرء بعد أن يشهد بشكل مباشر الحقائق الغيبية التي يقوم عليها إيمانه، أي يشير مفهوم «الإيمان الحقيقي» لشيخنا إلى مرتبة الإحسان التي ذكرها الرسول ﷺ والتي ناقشناها فيما تقدّم. ولا يصل المرء إلى هذه المرتبة إلا بالتتلمذ على يد مرشد روحي يمرّ بصحبته بخبرات روحية خارقة تؤكّد له صحّة ما يؤمن به. لأن المرشد الروحي الحقيقي قريب من الله ومُؤيَّدٌ منه، والقرب والتأييد من الله يعنيان بأن ذلك الشخص لديه حكمة تجيب على أسئلة العقل وتقنعه، وعنده خوارق للعادات تبيّن للعقل حدوده وتأتيه بالدلائل على عالم الغيب الذي لا سبيل للعقل بمفرده إليه. فإن ما جعل للصحابة ذلك الإيمان الذي كانوا عليه هو صحبتهم للرسول ﷺ وبالتالي شهودهم لمختلف المعجزات منه ليلاً ونهاراً، بما في ذلك خوارقٍ حدثت لهم. فقد كان إيمان الصحابة إيمان شهادة ومعاينة وخبرة شخصيّة، وليس مجرَّدَ إيمان تصديق لأخبار.
وهكذا يفسّر أستاذنا كلمة ﴿الْيَقِينُ﴾ في الآية الكريمة: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر/99). فاليقين هو الإيمان الثابت الذي ترسّخه الخبرات المباشرة للكرامات والتجارب الروحية الشخصية، فلا تترك مجالاً للشك في عقل أو قلب المسلم المؤمن.[7] أي أن اليقين هو «الإيمان الكامل بالله».[8] ويبيّن بأن ﴿الْيَقِينُ﴾ في هذه الآية الكريمة، كحال الكثير من الكلمات والآيات القرآنية، لها أكثر من معنى. فهي تعني أيضاً «الموت»، فيكون معنى الأمر الإلهي في هذه الحالة وجوب عبادة الله حتى الموت، أي من غير توقّف.[9]
فالصُّحْبة المُزَكِّية إذاً هي بوابة منزلة الإحسان. ولقد أبدع الخليفة الشهيد علي فايز حين خاطب شيخنا بهذا الشعر الذي ينطق علماً عن بركة الصحبة، وهو من القصيدة التي استشهدنا ببعضها في بداية الكتاب:
فَجَدَّت بي بِصُحبَتِكم أمورٌ ولم يَحصَلْ جَديدي باجتِهادي
[1] أي قرأ قراءةً مختلفة عن قراءة الرجل الأول.
[2] مسلم، صحيح مُسلم، ج 1، ح 820، ص 561.
[3] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان ، الأنوار الرحمانية، ص 24-25.
[4] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 30 حزيران 2000.
[5] الشيخ عبد القادِر الگيلاني، جلاء الخاطر، ص 27.
[6] البخاري، الجامع الصحيح، ج 2، ح 3136، ص 249.
[7] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 28 أيلول 2012؛ 30 تشرين الأول 2012.
[8] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 4 تشرين الأول 2013.
[9] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 1 نيسان 2013؛ 18 تشرين الأول 2013.