تكامل الطريقة والشريعة

تكامل الطريقة والشريعة

يؤكّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد على علاقة التكامل بين الطريقة والشريعة. فالشريعة تختص بأحكام العبادات والمعاملات وأوجه الحياة بشكل عام، ولذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً بدون الالتزام بالشريعة. فالإسلام كيان أساسه الشريعة وبناؤه الطريقة، فلا يمكن للبناء أن يقوم من غير أساس، كما أن أهمية الأساس هي فيما يُبنى عليه. ومن التعابير الرمزية التي كثيراً ما استخدمها شيخنا لشرح العلاقة التكاملية بين الشريعة والطريقة وكونهما يمثلان جانبي الإسلام هي وصفه للشريعة بالإطار والطريقة بالنواة والجوهر، وكذلك الشريعة بالجسد والطريقة بالروح. فمن أقواله في هذا المجال في مجالس إرشاده للمريدين:

«الشريعة أساس كل الطرق الصوفية. أي درويش، أي مريد، أي شيخ، أي عالم ديني، أو أي خليفة يخالف الشريعة المُحَمَّدية، ولو بقدر شعرة، فهو مخالف لطريقته».[1]

«نحن كلنا جنود الرسول ﷺ، جنود الشريعة، لأنها أساسنا. لا تخالفوا شريعة الرسول ﷺ، لا تدَعوا آخرين يغووكم بشأن ما هو مباح. نحن لدينا سُنّة الرسول، الكتاب والسُّنّة، لدينا مبادئ الطريقة. إن ما هو حلال في الطريقة هو حلال في الشريعة، لأنه ليس لدى المشايخ انحرافات، لأنهم سائرون على منهج الرسول. إذا حدث لدينا أي خطأ، أي خلل، فهم يبلّغوننا. مشايخكم هم مشايخ حق، لا كمن يدّعي كَذِباً بأنه شيخ طريقة، لا والله».[2]

«إن أساس طريقتكم هو شريعة الرسول ﷺ، فمن لديه نقص في الشريعة لديه نقص في الطريقة. فالشريعة هي تاج رأس المريد. نحن أسياد لتنفيذ شريعة الرسول ﷺ، نحن جنود الرسول ﷺ، نحن جنود لشريعة الرسول ﷺ. فالشريعة أساس الطريقة، وبدون شريعة لا توجد طريقة. إن نواة الشريعة هي الطريقة».[3]

فيمكن تصوّر الشريعة على أنها حدود الطريق إلى الله، فبدون تلك الحدود من المستحيل أن يبقى الإنسان على ذلك الصراط المستقيم ولا يحيد عنه، ولكن في نفس الوقت ليست هذه الحدود هي هدف الطريق ومقصده، وإنمّا الله هو القصد. فالشريعة تضمن بقاء الإنسان السالك على الطريق إلى الله، بينما الطريقة هي التي تساعده على التقدّم على ذلك الطريق والازدياد قرباً من الله سبحانه وتعالى. لذلك نجد مشايخ الطريقة أحرص الناس على الالتزام بالشريعة، وكما في هذه الحادثة المعروفة عن الشيخ عبد القادِر الگيلاني التي نقلها عنه الكثيرون، وفيما يلي رواية ابن تيمية (ت 728/1328) لها:

«كنت مرة في العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لي: «يا عبد القادِر! أنا ربك وقد حَلَّلتُ لك ما حَرَّمتُ على غيرك». فقلت له: «أنت الله الذي لا إله إلا هو؟ اخسأ يا عدو الله». فتمزَّق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: «يا عبد القادِر، نجوتَ مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك. لقد فتنتُ بهذه القصة سبعين رجلاً»».

ولما سُئِلَ الشيخ عبد القادِر كيف عَرَفَ الشيطان، أجاب بأنه عرفه من قوله «حَلَّلتُ لك ما حَرَّمتُ على غيرك»، وعلّق قائلاً: «وقد علمتُ أن شريعة مُحَمَّد ﷺ لا تُنسَخ ولا تُبَدَّل. ولأنّه قال «أنا ربك»، ولم يقدر أن يقول «أنا الله الذي لا إله إلا أنا»».[4] وتختلف روايات هذه الحادثة على الكثير من تفاصيلها، ولكنّها تتّفق على قول الشيخ بأنه عَرِفَ الشيطان من ادّعائه بتحليل المُحَرَّمات.[5]

إن الشريعة والطريقة مبنيّتان على القرآن الكريم والسُّنّة النبويّة الشريفة، ولكن أحكام الشريعة تأتي من اجتهاد علماء الشريعة في تفسير هذين الأصلين، وهذا اجتهاد عقلي، بينما تأتي تفاصيل الطريقة من اجتهاد مشايخها، وهو اجتهاد مبني على الكشوفات الروحية. لذلك فإن علوم الشريعة عقلية ونقلية، أي يمكن تناقلها وتعلّمها وتعليمها عن طريق الكتب، بينما علوم الطريقة روحية، فلا وصول إليها إلا عن طريق العبادة والتقوى وصحبة أهلها، فهي العلوم التي يصفها عز وجل بقوله الكريم: ﴿وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ﴾ (البقرة/282). وهكذا ففي جمعه بين الشريعة والطريقة جمع الإسلام بين العقل والقلب، بين العلوم النقلية والعقلية والكشوفات الروحية.

لذلك ليس من المستغرب أن نجد الطريقة تحتضن المسلم مهما كان مذهبه الشرعي. فالطريقة لا تفرّق بين سُنّي وشيعي، ولا بين حنفي وشافعي، أو بين غيرهم من أتباع المذاهب المختلفة، وهذا هو حال الطريقة الكَسْنَزانِيّة. ويجسّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد هذا الأمر قولاً وفعلاً، فلم يدع المريد إلى ترك مذهب واتّباع آخر، وكان يحب لقاء واستقبال وإكرام علماء المسلمين من مختلف المذاهب.

بعد هذه المقدّمة الوجيزة لمفهوم الطريقة، ستأخذنا الفصول القادمة في رحلة استكشاف لعناصر هذا المنهج الروحي الكامل الذي يتناول كل جوانب حياة الإنسان وتفاصيلها.

[1] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، تخريج دورة الخلفاء، 2005.

[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 14 تشرين الثاني 2008.

[3] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، بدون تاريخ، ليلة عرفة.

[4] ابن تيمية، مجموع فتاوى، ج 1، ص 172.

[5] مثلاً، التادفي، قلائد الجواهر، ص 20-21.