الفصل 12
تجديد أذكار الطريقة
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في ساحة تكية بغداد (1987/1986)
«إذا تَركْتُم الدروشة، إذا تَركْتُم الذكر، إذا تَركْتُم أورادكم، فإن المشايخ يتركوكم. إنّ دروع المريدين هي الأوراد والذكر. إن أسلحتِنا ودبّاباتِنا وطائراتِنا هي ذكر الله سبحانه وتعالى. نحن نموت على ذكر الله، ونحيا على ذكر الله. نحن نموت في سبيل ذكر الله سبحانه وتعالى، ونعيش في سبيل ذكر الله سبحانه وتعالى. فغذاؤنا، غذاء الروح، هو ذكر الله سبحانه وتعالى. فلا تنسوا أذكاركم وأورادكم».
السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 7 كانون الثاني 2010)
أنعم الله عز وجل على الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد بالكثير من الفتوحات الروحية فغيّر بعض الأذكار التي ورثها من أساتذة الطريقة قبله واستحدث أذكاراً جديدة، وتناولت هذه التجديدات أنواع الأذكار الثابتة الثلاثة في الطريقة، اليومية والدائمة وحلقة الذكر، إضافة إلى إدخاله لأورادٍ وقتية. كما مَنَّ الله على شيخنا بذكر عظيم خاص هو «حزب الواو».
1-12 الأوراد الدائمة
كان عدد الأوراد الدائمة في عهد الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان تسعة عشر وِرْداً، وكان كل وِرْد يُقرأ اثنان وثمانين ألف مرة، باستثناء ذكر «يا ودود» الذي كان يُقرأ خمس وستون ألف مرة. وأدخل الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد تغييرين على الأوراد الدائمة للطريقة. فبعد خروجه من خلوته الأولى، أي بعد حوالي سبعة أشهر من استلامه لمشيخة الطريقة، قام أستاذنا بتغيير هذه الأعداد فأصبح كل وِرْد من هذه الأوراد يُقرأ مئة ألف مرة. ويُشار إلى هذا العدد في الطريقة الكَسْنَزانيّة بتعبير «خَتْمة».
أما التغيير الثاني فهو استبداله في منتصف عام 1996 للذكر الحادي عشر من الأذكار التسعة عشر «اللّهم صلِّ على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليما» بصيغة جديدة من الصلاة على النبي ﷺ بلّغه بها مشايخ الطريقة هي «الصلاة الوصفية»: «اللهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّد الوَصْفِ والوَحْيِ والرِسالَةِ والحِكْمَةِ وعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلِّمْ تَسْليما».
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان خلال بناء التكية الرئيسة في بغداد (1981)
2-12 الأوراد اليومية
زاد شيخنا في الأوراد اليومية وغيّر أعداد بعض الأذكار التي ورثها من الشيخ عبد الكريم، وسنذكر هنا بعض هذه التغييرات.
في ثمانينيّات القرن الماضي، أضاف شيخنا إلى الأوراد اليومية تلاوة سورة الإخلاص مع البسملة 200 مرة. ولما كانت هذه السورة تتكون من أربع آيات، فإن قراءتها مع البسملة 200 مرة في اليوم الواحد تعادل قراءة ألف آية كل يوم. وهذا يذكّر بحديث الرسول ﷺ: «مَنْ قَرَأَ ألفَ آيةٍ في سبيلِ الله كَتَبَهُ اللهُ مع النَبيّينَ والصِدّيقينَ والشُهَداء والصالِحين».[1]
وفي بداية التسعينيّات أدخل شيخنا قراءة الذكر التالي ثلاث مراتٍ بعد كل واحدة من الصلوات الخمس المفروضة: «اللهُ حاضري، اللهُ ناظري، اللهُ شاهدٌ عَلَي، اللهُ مَعي؛ اللهُ مُعيني، وهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ مُحيط». وهذا من ورد للشيخ عبد القادر الگيلاني تلقّاه من الشيخ معروف الكرخي. ويقول أستاذنا بأن هذا الذكر يجسّد الإحسان،[2] ثالث أركان الدين، الذي وصفه النبي ﷺ بقوله «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».[3] ولا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة من الوعي بالله إلا عن طريق الكشوفات الربانية التي تقرّب الإنسان من عالم الروح وهو في الحياة الدنيا.
وفي الشهر الثالث من عام 2016 أضاف شيخنا قراءة الذكر التالي مرة واحدة بعد كل صلاة: «أستغفر الله الذي لا إِلَهَ إِلَّا هو، الرحمن الرحيم، الحيُّ القَيّوم الذي لا يموت، وأتوب إليه، ربِّ اغفر لي». كما كانت صيغة الاستغفار في الأوراد اليومية هي «أسْتَغْفِرُ اللَّـهَ» قبل أن يضيف اسم الله «العَظيم» إليها لتصبح «أسْتَغْفِرُ اللَّـهَ العَظيم». وأضاف شيخنا ذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» بعدد 165 بعد صلاة الظهر والعصر والمغرب.
وأدخل شيخنا ثلاثة تغييرات على «وِرْد العصر» الذي يُقام ساعة واحدة قبل صلاة المغرب. إن ورد العصر هو هديّة من الشيخ عبد القادِر الگيلاني إلى مشايخ الطريقة الكَسْنَزانيّة تبلّغ به الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان قبل انتقاله إلى عالم الروح بفترة قصيرة، فوجّه بأن يدخل وِرْد العصر أوراد الطريقة في عصر خليفته، الشيخ حُسَين. كان هذا الوِرْد في زمن السلطان حُسَين يتكون من تسعة أذكار يُقرأ كلٌ منها 33 مرّة، ولم يدخل الشيخ عبد الكريم أي تغيير عليه. ولكن بعد فترة من استلامه لمشيخة الطريقة، زاد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد عدد قراءة أذكاره من 33 إلى 50، ثم زاد العدد ثانية إلى 66 في عام 2005 أو 2006. وفي بداية شهر تشرين الأول من عام 2010 أضاف إلى نهاية الوِرْد «يا أرحم الراحمين»، الذي وصفه بأنه «دعاء»، تمييزاً له عن الأذكار التسعة.
وفي ليلة الأحد 28 كانون الثاني 2018، وبعد إقامة احتفال بولادة النبي ﷺ بمناسبة عودة الشيخ نهرو من الولايات المتحدة الأمريكية، أوعز أستاذنا بالقيام بذكر العصر. وإقامة وِرْد العصر ليلاً هو أمر نادر، إن لم يكن غير مسبوق. وبعد أن أنتهى الذاكرون من الذكر الأخير، «يا رَحيم»، بدأ شيخنا بذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» 100 مرة، وأطلَقَ على هذا الذكر الإضافي إلى وِرْد العصر تسمية «ذكر النصر». أما دعاء «يا أرحم الراحمين» فيمكن للمريد إن أراد قراءته بما شاء من عدد بعد «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه».
وسيراً على نهج الشيخ حُسَين والشيخ عبد الكريم، كان الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد غالباً ما يحضر وِرْد العصر. وحتى حين كان شيخنا في شغل خارج التكية، مثلاً في السيارة، فإنه كان يقيم وِرْد العصر بشكل فردي.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة الذكر في بداية بناء التكية الرئيسة في البصرة (1992)
3-12 الصلاة على النبي ﷺ
كان أحد الأذكار التي استحدثها شيخنا في ثمانينيّات القرن الماضي صيغةَ صلاةٍ على النبي ﷺ. ويشير شيخنا إليها في حديثه التالي عن الصلاة على النبي ﷺ بشكل عام في عام 2013 في عمّان:
«لدينا في طريقتنا العَلِيّة القادِريّة الكَسْنَزانِيّة أعظم ختمة، وهي «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه، مُحَمَّد رسول الله، صلّى الله تعالى عليه وسلم». انظر إلى العظمة التي أعطاها الله لحضرة الرسول ﷺ، فبعد التوحيد يأتي تكريم الرسول ﷺ، الصلوات على حضرة الرسول ﷺ، وأمَرَنا بهذا: ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب/٥٦). أعطانا هدية؛ الصلوات هدية، الصلوات رحمة، الصلوات بركة، الصلوات كنز، الصلوات رزق، الصلوات هي الدنيا والقيامة، الصلوات هي الجنّة، الصلوات نور، الصلوات تقرّب إلى الله وإلى حضرة الرسول: «وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا. وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا».[4] فعندما تصلّي على حضرة الرسول ﷺ، فإنك تتقرّب إلى الله. فنحن لدينا هذه الختمة، أكبر ختمة في التصوف الإسلامي، أكبر ختمة في الإسلام، أكبر ختمة في طريقتنا. من يريد أن يجرّب، فليجرّب. لا توجد هذه الختمة في بقية الطُرُق، فابحثوا إذا شئتم! أنا لدي ربما آلاف من كتب التصوف، فليس لدى شيخ هذه الختمة سوى مشايخكم الكَسْنَزانِيين. هذا بأمر. والله، والله، والله، ذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه، مُحَمَّد رسول الله، صلّى الله تعالى عليه وسلم» هو بِأَمْر. أتاني هذا الأمر حين كنت في بغداد، لقد أبلغوني بهذا الذكر بِأَمْر. حتماً كل أمور الصوفيّة هي من الله سبحانه وتعالى إلى حضرة الرسول وإلى المشايخ».[5]
جعل شيخنا قراءة هذه الصلوات مئة مرّة جزءاً من الذكر اليوميّ بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العشاء. ثم أضاف في الشهر الأول من عام 2006 إلى هذا الذكر عبارة «في كل لمحةٍ ونَفَس، عدد ما وَسِعَهُ عِلمُ اللَّـه» فأصبحت صيغة الصلاة هي «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه مُحَمّدٌ رَسولُ اللَّـهِ صَلّى اللَّـهُ تَعالى عَلَيهِ وسَلَّمْ، في كل لمحةٍ ونَفَس، عدد ما وَسِعَهُ عِلمُ اللَّـه».
وفي عصر يوم في الشهر السابع من عام 1996، حين خرج شيخنا من غرفة استراحته بلّغ الدراويش بأنه قد شُرِّفَ بصلاة جديدة على الرسول ﷺ لم تُعْطَ إلى أحد من قبل هذا نصّها: «اللهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّد الوَصْفِ والوَحْيِ والرِسالَةِ والحِكْمَةِ وعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلِّمْ تَسْليما». وَوَصَفَ الصلاة الوَصفيّة في حينها بأنها «خاتمة الصلوات الكَسْنَزانِيّة». كما أن مما وصفها به هي أنها من «تأليف» الرسول ﷺ:
«هذه الصلوات ليست من عندي، وإنّما بَلّغوني بها. فانظر كم مباركة هي الصلوات الوصفيّة. إنها منه، من النور، من حضرة الرسول ﷺ. ففي الماضي لم تكن لدينا هذه الصلوات. فهذه الصلوات مباركة جداً، لأنها منه، هو الذي بلّغنا، ولذلك نحن نقرأها باستمرار. لم تكن هذه الصلوات موجودة في أي كتاب من قبل. فهي منه، من حضرة الرسول، هو بّلغ، فبلّغنا… كم جميلة ومباركة هي، هو بنفسه منح هذه الصلوات، هي من تأليفه. كم جميلة هي. مهما فكّرت فلن تحيط بحدود بركة الصلوات الوصفية. لأنها برغبته، بأمره، وبأمر الله سبحانه وتعالى».[6]
وأضاف شيخنا مئة مرة من الصلاة الوصفية إلى الذكر اليومي بعد صلاة العشاء. كما حلّت الصلاة الوصفية محل صلاة «اللهُمَّ صلِّ على سيِّدنا محمّد وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلِّم تسليما» في الأوراد الدائمة واليومية.
وبسبب القوة الروحية الخاصة للصلاة الوصفية كان يأمر الدراويش أحياناً في ظروف معيّنة بأن يقوموا بختمة منها. فقبل تلقّيه للصلاة الوصفية، كان شيخنا يوجّه المريدين في مثل هذه الحالات بقراءة الصلاة المعروفة بالصلاة «النارية» أو «التفريجيّة»:
«اللهمَّ صلِّ صلاةً كاملة، وسلِّم سلاماً تامّاً على سيّدنا مُحَمَّد الذي تنحَلُّ به العُقَد، وتنفرِجُ به الكُرَب، وتُقضى به الحوائِج، وتُنالُ بِهِ الرغائِب، وحُسنُ الخواتِم، ويُستِسقى الغَمامُ بوجهِهِ الكريم، وعلى آلِهِ وصحبِهِ، في كلِّ لمحةٍ ونفسٍ، بعددِ كلِّ معلومٍ لكَ».[7]
ولكن الصلاة الوصفية حلّت محلها.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في ورد العصر في حوش تكية عمان، الأردن (15 تشرين الأول 2016)
كان شيخنا يكثر من التذكير بالآية الكريمة ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب/56) وبالأحاديث الشريفة في فضل الصلاة على الرسول ﷺ كقوله: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا». ومن أقواله في عظمة الصلاة على النبي ﷺ: «لا يعرف أسرار الصلاة سوى الله والرسول ﷺ والراسخون في علم الروح».
ويؤكّد شيخنا بأن الصلوات على النبي ﷺ تحل مختلف المشاكل، ولذلك كثيراً ما ينصح الدراويش الذين يخبرونه عن صعوبات ومشاكل لديهم بأن يُكثِروا من الصلاة على الرسول ﷺ. كما كان يؤكّد على أن أي دُعاء يجب أن يُسبَق ويُتَخَلَّل ويُختَم بالصلاة لكي يُستَجاب، أي يجب «تغليف» الدعاء بالصلاة على النبي ﷺ.[9] وهو دائم الحديث في مواعظه عن خصوصيّة الصلاة على النبي ﷺ، كما في هذه الموعظة:
«أكثروا من الصلوات على حضرة الرسول، لأن الصلوات نور للمريد يوم القيامة. هي صفة الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يقول لك يا مريد — أنظر كيف يحب الله عباده، كيف يعطيه أفضل شي، أعز شي للمريد — يقول: ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. الصلاة والسلام عليك يا رسول الله. فأكثروا من الصلوات على حضرة الرسول، بالصلوات على الرسول تحصلون على محبة الرسول. إن فاتحة الدعاء هي الصلاة على الرسول، لا يُستَجابُ لأي دعاءٍ من عبدٍ إلا بأن يصلي على حضرة الرسول في أول الدعاء وفي آخره، فبين الصلاتين إن شاء الله يكون الدعاء مستجاب. حافظوا على اورادكم، على طريقتكم، وعلى أذكاركم، وعلى الأخص الصلوات على حضرة الرسول».[10]
وكما ذكرنا، جمع الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد أيضاً عدداً من صيغ الصلاة على رسول الله ﷺ في كتاب عنوانه «الصلوات الكَسْنَزانيّة» نشره عام 1990. وبقي جمع صيغ الصلوات على النبي ﷺ مشروع مستمر لشيخنا حتى انتقاله إلى عالم الروح.
إن حبّ شيخنا للرسول ﷺ لا مثيل له، وهو حب تظهر آثاره على كلامه، ووجهه، وحركاته، وأفعاله. وترى علامات ذلك الهُيام عليه متى ما ذُكِرَ اسم سيدنا مُحَمَّد ﷺ أو أحد ألقابه أمامه، وغالباً ما يتجسّد ذلك الحبّ دمعاً وبكاءً. وهذا أمر شهده كل من حضر مجالس شيخنا الإرشادية أو جلسات المديح. بل تُرى علامات هذا الحب اللامتناهي للنبي ﷺ تظهر عليه حتى حين يُذكَر أمامه عَرَضاً وفي أي وقت وحال. وأذكر مثالاً من أحد مجالس شيخنا الخاصة في عمّان حين كان مدير مكتبه الخليفة مُحَمَّد الكاتب يوماً يقرأ له عناوين مخطوطاتٍ في فهرس إحدى المكتبات ليطلب نسخة من تلك التي يريد الاطلاع عليه. فكان كلمّا ذكر الخليفة عنوان مخطوطة فيه اسم النبي ﷺ أو لقب له رفع شيخنا كفّه اليمنى المستندة على كرسّيه في إشارة سلام واحترام وكأنه يسلّم على حاضِرٍ مُشاهَد.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة إرشاد في تكية السليمانية، العراق (منتصف العقد الأول من القرن الحالي)
ويحضرني موقفٌ شخصيٌ أخر من آخر زياراتي له في فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، في نهاية تشرين الأول من عام 2019، حين كنت أتشرف بتناول العشاء على مائدته الكريمة. كان شيخنا يحب تجاذب أطراف الحديث مع ضيوف مائدته، فذكر أمراً جعلني أطرح موضوع مكانة من يمدح النبي ﷺ وحبّ مشايخنا لسماع مدح النبي ﷺ، وكان من الجالسين على المائدة مدّاح الطريقة مجيد حميد. فلما أراد شيخنا تأكيد ذلك وبدأ بالثناء على من يمدح رسول الله ﷺ بقول «مدّاح الحبيب»، هزّت العبرة جسمه الشريف ومنعته من إكمال قوله. فلما هدأ حاله وحاول الاستمرار بالكلام، هزّه الوجد ثانية وأوقفه لوهلة أخرى، قبل أن يتمكّن من إكمال كلامه. إني أُشِهِدُ الله بأني لم أرَ شيخنا يحب أحداً أو شيئاً مثلما كان يحبَّ النبي ﷺ، بل ولم أشهدَ حُبَّ مُحبِّ لمحبوبٍ مثل حُبِّه لحبيب الله ﷺ، وعنوان هذا الكتاب هو تعبيرٌ عن هذه الحقيقة.
كان عاشق النبي يحب أن يدعوه ﷺ بتعبير «الحبيب» وكان يؤكّد على أن حبّ الرسول ﷺ هو باب الوصول إلى الله سبحانه وتعالى:
كل ما تحدثّنا عنه مرتبطٌ بشيء واحد وهو محبة الحبيب ﷺ، لأن ﴿الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران/19). الإسلام يعني مُحَمَّد ﷺ؛ مُحَمَّد يعني الرحمة المُهداة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء/107). فمن يريد الرحمة فهي مُحَمَّد، ومن يريد الدين فهو مُحَمَّد، ومن يريد الآخرة فهي مُحَمَّد، ومن يريد القيامة فهي مُحَمَّد. هو شفيع المذنبين، سيّد المرسلين، سيّد الأنبياء والمرسلين، سيّد الأولياء والأنبياء.
إن محبّة الحبيب هي محبّة الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ﴾ (آل عمران/٣١). فافهموا بأن كل هذه الأمور مرتبطة بمحبة الحبيب. فبدون محبة الحبيب عملك لن ينجح. تستطيع أن تُنجِحَ عملك بتغليفه بمحبة الحبيب، بالصلواتِ على الحبيب ﷺ. فالصلوات على الحبيب تغلّف عبادتك، تنظف عبادتك، وتحولّها الى اللَّه سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾. فبالرحمة المُهداةَ في الإسلام تغلّف عبادتك. الصلاة على الحبيب ﷺ نورٌ يوصِل الإنسان الى اللَّه سبحانه وتعالى. فإذا كُتِبَت محبة الرسول على اللوح الموجود في القلب، فكل ما تعمل إن شاء اللَّه يصل. إذا لم يكن في قلبك محبة الحبيب، فليس في قلبك أية عبادة. فالأمور الدينية الإسلامية مرتبطة بالإيمان بالحبيب.[11]
لقد غدا شيخناً كلّه حبّاً للنبي ﷺ، ومن دلائل هذا الفناء وما أوصله إليه من مكانة روحية رفيعة أن النبي الكريم ﷺ شرّفه بفضل خاص حيث أضاف أحد ألقابه الشريفة إلى اسمه تمييزاً وإكراماً له، فغيّره من «مُحَمَّد» إلى «مُحَمَّد المُحَمَّد»، وهو فضل أعلنه شيخنا في 18 أيّار 2016. إن «مُحَمَّد المُحَمَّد» يعبّر عن اصطفاء النبي ﷺ لشيخنا، أي كأن الرسول ﷺ يصفه بأنه «مُحَمَّد الخاص بي» أو «مُحَمَّد الذي اصطفيته لنفسي».
وفي يوم 11 آب 2017، وكما هو روتينه اليومي، ترك الشيخ مجلسه في حوالي الساعة الواحدة صباحاً وذهب إلى غرفته الخاصة ليأخذ قسطاً من النوم حتى ما يقارب الثانية والنصف ليبدأ بعدها بعباداته. حين استيقظ اتصل بمساعده الشخصي، عيسى المزروعي، وطلب منه الحضور. فلما جاء، سأله عمّن كان في التكية، فأجاب عيسى بأن هنالك بعض الدراويش. فطلب منه أن يذهب إليهم ويخبرهم بأنه قد بُشِّرَ توّاً بأنه بمجرّد ما أن ينوي الشخص الصلاة على الرسول ﷺ ويجهز نفسه وسبحته لها، أي حتى قبل المباشرة بقراءة الصلاة، فإن الله تعالى يغفر له ذنوبه ببركة الرسول ﷺ.
ومما لاحظته في زياراتي الأخيرة له في عمّان في عامي 2018-2019 أنه حين كان يخبره دراويش عن مشاكل لديهم، فإنه لم يعد يصف لهم من الأذكار سوى الصلاة على النبي ﷺ ويتحدّث عما فيها من البركة.
ومن سلوكيّاته اليوميّة التي تنطق بفنائه في النبي ﷺ أنه كان حين ينزل من غرفته الخاصّة إلى مجلسه العام الذي يقابل فيه الدراويش والزوّار، كان يمرّ في طريقه إلى كرسيّه بسجّادة معلّقة على الحائط عليها نقش جميل جداً للقبة الخضراء والمسجد النبوي الشريف. كان يقف أمامها باحترام محنياً رأسه ليقرأ الفاتحة ويدعو قبل أن يذهب للجلوس إلى كرسيّه. كان هذا أول ما يقوم به حين يأتي إلى مجلسه.
في آخر فترة له في عمّان قبل سفرته الأخيرة إلى أمريكا، كان يقرأ كل حين وآخر الدعاء التالي الذي هو بيت شعر باللغة الكرديّة:
يا صاحِبَي مَدينَي مُنَوَّره بَفَرمو توْي مِنِي وْوَرا
وترجمته باللغة العربية:
يا صاحب المدينة المُنوَّرة تفضّل بالقولِ بأنَّكَ منّي فتعال
وهذه إشارة أخرى إلى فناء أستاذنا حُبّاً في الرسول ﷺ يصف فيها ذوبانه الروحي في أستاذه ﷺ ويطلب منه فيها أن يدعوه ليكون إلى جواره.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان وعلى يمينه الشيخ مُحَمَّد القره داغي خطيب الجامع الكبير في السليمانية في مولود للنبي ﷺ (الثمانينيات)
4-12 حلقة الذكر
وأدخل الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد عدداً من التغييرات على حلقة الذكر. فأصبحت الحلقة تبدأ بقراءة هذه الصلاة: «يا دائم الفضل على البريّة، يا باسط اليدين بالعطيّة، يا صاحِب المواهب السنيّة، صلِّ على مُحَمَّد خير البريّة، واغفر لنا يا ربنا في هذه العَشيّة». وتُنسَب هذه الصلاة، ولكن باختلاف بسيط في الصيغة، إلى الصحابي عبد الله بن عبّاس.[12]
كما غير صيغتي الاستمداد من النبي ﷺ والإمام علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) بأن أضاف إليهما كلاماً للشيخ محيي الدين ابن عربي.[13] فهذه هي صيغة الاستمداد من الرسول ﷺ. وتتكوّن هذه الإضافة من بداية «الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمين» إلى نهاية «المُبَرْقَعِ بالعَماء» وتتضمّن العديد من ألقابه ونعوته الروحية ﷺ:
«مَدَد يا سَيِّدَنا ونَبيَّنا وشَفيعَ ذُنوبِنا. يا صاحِبَ الآياتِ والمُعْجِزاتِ، ويا صاحِبَ دَلائلِ الخَيْراتِ وخَوارقِ العادات، ويا سَيِّدَ السادات، حَبيبَ رَبِّ العالَمين وخاتَمَ النَبيينَ وسَيِّدَ المُرسَلين. الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمين حَمْداً أزَليّا بِأَبدِيَّتِه وأَبَدِيّا بِأَزَليّتِه، سَرْمَدا بإطلاقِه، مُتَجلِّيا في مَرايا آفاقِه، حَمْدَ الحامِدين ودَهْرَ الداهرين. صَلواتُ اللَّـهِ ومَلائكَتِهِ وحَمَلَةِ عَرْشِهِ وجَميعِ خَلْقِهِ مِن أرضِهِ وسَمائِهِ على سَيِّدِنا ونَبيِّنا، أصْلِ الوُجود وعَيْنِ الشاهِدِ والمَشْهود، وأوَّل الأوائِل، وأدَلِّ الدَلائل، ومَبدَءِ الأنوارِ الأزليّ ومُنتَهى العُروجِ الكَمالِي، غايَةِ الغايات، المُتَعَيَّنِ بالنَشأت، أبِ الأكوانِ بفاعِلِيَّتِهِ وأمِّ الإمكانِ بقابِلِيَّتِه، المَثلِ الأعلى الإلهي، هَيُوليِّ العَوالِمِ غَيرِ المُتناهي، روحِ الأرواحِ ونورِ الأشباح، فالِقِ إصباحِ الغَيبِ ورافِعِ ظُلْمَةِ الريب، مُحتَدِ التِسعَةِ والتِسْعين، رَحمةٍ للعالَمين، سَيِّدِنا في الوجود، صاحِبِ لِواءِ الحَمْدِ والمَقامِ المَحْمود، المُبَرْقَعِ بالعَماء، حَبيبِ اللَّـهِ مُحَمَّد المُصطفى صَلّى اللَّـهُ تعالى عَلَيه وسلّم».
وفيما يلي صيغة الاستمداد من الإمام علي، وإضافة أستاذنا هي من بداية «وَعَلى سِرِّ الأسرارِ» إلى نهاية «إمامِ الأئمةِ»، وتتكوّن من ألقاب ونعوت روحية للإمام:
«مَدَد يا سَيِّدي وسَنَدي ومُرشِدي وتاجَ رَأسي ونورَ عيني، فارِسَ المَشارِقِ والمَغارِب، صاحِبَ مُظْهِرِ العَجائِبِ والغَرائِب، أسَدَ اللهِ الغالِب. وَعَلى سِرِّ الأسرارِ ومَشْرِقِ الأنْوار، المُهَنْدِسِ في الغُيوبِ اللاهوتِية. أُنموذَجِ الواقِعِ وشَخْصِ الإطلاقِ، المُنْطَبِعِ في مَرايا الأنفُسِ والآفاق، سِرِّ الأنبياءِ والمُرسَلين، سَيِّدِ الأوصِياءِ والصِدّيقين. الصورةِ الإلهية، مادّةِ العلومِ غيرِ المُتَناهية، الظاهِرِ البُرهان، الباطِنِ بالقَدْرِ والشَأن، بسملةِ كتابِ الوجود، حَقيقَةِ النُقْطَةِ البائيّة، المُتَحَقِّقِ بالمَراتِبِ الإنسانِية، حَيدَرِ آجامِ الإبداع، الكَرّارِ في مَعارِكِ الاختراع، السِرِّ الجَلي والنَجْمِ الثاقِب، إمامِ الأئمةِ، عَلي بن أبي طالب عَليهِ الصَلاةِ والسَلام».
وأصبحت حلقة الذكر تنتهي بقراءة هذه الصلاة: «اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وزِد وبارِك على النبي مُحَمَّد وآلِ مُحَمَّد سَيِّدِ الرِّجالِ المُفَضَّل، يا بَحْرَ الكَمالِ يا مُحَمَّد»، تليها الصلاة الوصفية. وتُختَم جلسات المديح والإرشاد أيضاً بهاتين الصلاتين.
دَرَجَ الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان على حضور الجزء الأخير من حلقة الذكر، وهو الجزء الذي ترافقه الطبلة والدفوف، وكان يقف لفترة قصيرة خارج الحلقة من دون أن يدخلها، قبل أن يذهب للجلوس على كرسيه أمام الحلقة بينما يستمر الدراويش في إكمال الذكر. أما شيخنا، فكان أيضاً يحضر جزء حلقة الذكر الذي يصاحبه ضرب الطبلة والدفوف، ولكنه كان يدخل وسط الحلقة. وحين سُأِلَ عن ذلك أجاب بأن الشيخ عبد الكريم كان يدري لِمَ لا يدخل الحلقة وأنه يدري لِمَ يدخلها.
وأثناء وجوده داخل الحلقة كان أستاذنا أحياناً يصحّح طريقة وقوف بعض الدراويش أو حركات ذكرهم. وحين يقارب الذكر على الانتهاء ويجلس الدراويش على الأرض، يترك شيخنا الحلقة ويذهب للجلوس على كرسيّه أمام الحلقة، حيث يزوره الدراويش بعد انتهاء الذكر، وقد يلقي موعظة، ثم تُقام وصلة مدائح.
وأحياناً يرفع أستاذنا خلال الذكر إحدى قدميه ويحرّكها قليلاً ليبقى مستنداً على قدمه الأخرى وعصاه، وهذه إشارة تواضع وتذلّل لمشايخ كِبار حين تحضر أرواحهم حلقة الذكر. وكما ذكرنا سابقاً، توقّف أستاذنا عن حضور حلقة الذكر بسبب حالته الصحيّة إلا في مناسبات خاصّة.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في مولود للنبي ﷺ (الثمانينيات)
5-12 الأوراد الوقتيّة
بالإضافة إلى أذكار الطريقة الثابتة، أي الدائمة واليومية وحلقة الذكر، فإن شيخنا يوجّه الدراويش أحياناً للقيام بأذكار وقتيّة معيّنة. وقد يكشف أسباب هذه الأوراد وقد لا يفصِح عنها. وغالباً ما يكون الذكر محدوداً بعدد معيّن، وإن كانت بعض الأوراد تنتهي بانتهاء فترة معيّنة أو حدث ما. وكثيراً ما يكون التوجيه بقراءة هذه الأوراد بدلاً عن الأوراد الدائمة، ليعود المريد بعد أن يكمل الأوراد الوقتيّة إلى إكمال الأوراد الدائمة حيث توقّف. وكمثال على الأذكار الوقتيّة، وجّه أستاذنا يوم 10 شباط 2017 بأن يقوم المريدون بقراءة ذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» مئة ألف مرّة وذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه مُحَمَّد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلّم» مئة وخمسة وثلاثون ألف مرّة، وأن يهدي المريد ثواب الذِّكرين إلى مشايخ الطريقة وأن تكون قراءتهما بنيّة تحقّق ما في قلب شيخنا من شأن.
6-12 الأوراد الفرديّة
أحياناً يصف أستاذنا ذكراً معيّناً لدرويش أو مجموعة من الدراويش لأمور خاصّة بالطريقة يعلمها هو. كما كان كثيراً ما يوجّه مريداً للقيام بذكر خاص بعدد معيّن أو لفترة معيّنة لحاجة يطلب فيها المريد مساعدته، كزيادة الرزق، أو صرف أذى، أو الشفاء من مرض، وغيرها من الحاجات الخاصة.
وأود أن أذكر هنا تجربة شخصية لي. ففي الشهر السادس من عام 2016 أخذت أشعر بعد السير لمدة عشرة دقائق تقريبا بشعور غريب غير مريح في القلب. كما كنت أشعر أحياناً بزيادة في ضربات القلب، خصوصاً عند تناول الطعام. وكان الخفقان أحياناً يشتد إلى درجة تجعلني أشعر وكأن قلبي يكاد أن يخرج من صدري. في الشهر التاسع من ذلك العام، كنت في زيارة أستاذنا في فرجينيا، وقبل توديعي له للعودة إلى بريطانيا حيث أسكن، أخبرته عن حالتي هذه، فسأل عن تفاصيلها، وكان لدي موعد مع أخصائي للقلب بعد ثلاثة أيام. فقال لي بأن لا أقلق وأن أقوم بختمة من ذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» وإن شاء الله ستذهب تلك الحالة. ثم أضاف مستشهداً بحديثي النبي ﷺ «أفضل الذكر لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه»[14] و «من قالَ «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» دخَلَ الجنّة»[15] والحديث القدسي «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه حُصني، فمن دخلَ حُصني أمِنَ من عذابي».[16] بعد عودتي، تم تشخيصي باضطراب في ضربات القلب وأوصاني الأخصائي بأن أراقب أي تطوّر في حالتي وأن أراجعه. ولكني قبل انتهائي من ختمة الذكر التي وجّه بها أستاذنا اختفت الحالة تماماً ولم أعد بحاجة لمراجعة الطبيب.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في زيارة إحدى تكايا الرمادي (26 كانون الأوّل 1991)
7-12 حزب الواو
إن الفرق بين الوِرْد والحزب، هو أن الأول هو ذكر يُقرَأ بشكل منتظم، مثلاً يوميا، بينما الحزب هو ذكر يقرأه الذاكر حين يشاء، مثلاً بِنيّةِ قضاء حاجةٍ ما. يقول شيخنا بأنه ورد على قلبه بأن كثير من المشايخ كانت لهم أحزاباً خاصة بهم ولكنه ليس له حزب، فمّن عليه الله عز وجل في عام 2013 بحزب خاص هو «حزب الواو». ووصفَ هذا الحزب بأنه «بأمر من الله إلى حضرة الرسول ﷺ، إلى المشايخ، والمشايخ بلّغوني به».[17] ويجمع هذا الحزب كل الآيات القرآنية التي تبدأ بحرف الواو، وعددها 2.128 آية، متسلسلة حسب ورودها في المصحف، فأولى الآيات هي ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (البقرة/4) وأُخراها هي ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ (الفلق/5). وقد وصف شيخنا حزب الواو بأنه «شيء عظيم». ولا تجوز قراءه هذا الحزب الفريد إلا بإجازة منه. وأفضل وقت لقراءته هو الثلث الأخير من الليل، ويمكن للشخص أن يكمله في أكثر من ليلة.
[1] البيهقي، السنن الكبرى، ج 9، ح 18575، ص 291.
[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 كانون الثاني 2010؛ 4 آب 2013.
[3] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 50، ص 65.
[4] هذ هو النص الكامل للحديث القدسي الذي نقله الرسول ﷺ عن رب العزّة: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي. فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي؛ وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا؛ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا؛ وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 7129، ص 693).
[5] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 12 أيلول 2013.
[6] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 1 أيّار 2018.
[7] النبهاني، أفضل الصلوات على سيّد السادات، ص 61؛ النازلي، خزينة الأسرار جليلة الأذكار، ص 183.
[8] مسلم، صحيح مُسلم، ج 1، ح 408، ص 306.
[9] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 3 تشرين الأوّل 2013.
[10] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 28 أيلول 2013.
[11] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 7 شباط 2013.
[12] النبهاني، سعادة الدارين في الصلاة على سيّد الكونين، ص 246-247؛ دعوة تشريفات مع الملأ الأعلى، ص 107.
[13] ورد هذا الكلام عن الشيخ ابن عربي في كتاب ملحقات الإحقاق للعلامة شهاب الدين المرعشي، الذي نقله بدوره عن الشيخ فضل الله بن روزبهان الإصبهاني في كتابه شرح صلوات چهارده معصوم – وسيلة الخادم إلى المخدوم، ص 293.
[14] الترمذي، الجامع الكبير، ج 5، ح 3383، ص 393.
[15] الطبراني، المعجم الكبير، ج 7، ح 6348، ص 55.
[16] المتّقي الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ج 1، ح 158، ص 52.
[17] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 12 أيلول 2013.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في ساحة تكية بغداد (1987/1986).
«إذا تَركْتُم الدروشة، إذا تَركْتُم الذكر، إذا تَركْتُم أورادكم، فإن المشايخ يتركوكم. إنّ دروع المريدين هي الأوراد والذكر. إن أسلحتِنا ودبّاباتِنا وطائراتِنا هي ذكر الله سبحانه وتعالى. نحن نموت على ذكر الله، ونحيا على ذكر الله. نحن نموت في سبيل ذكر الله سبحانه وتعالى، ونعيش في سبيل ذكر الله سبحانه وتعالى. فغذاؤنا، غذاء الروح، هو ذكر الله سبحانه وتعالى. فلا تنسوا أذكاركم وأورادكم».
السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 7 كانون الثاني 2010)
أنعم الله عز وجل على الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد بالكثير من الفتوحات الروحية فغيّر بعض الأذكار التي ورثها من أساتذة الطريقة قبله واستحدث أذكاراً جديدة، وتناولت هذه التجديدات أنواع الأذكار الثابتة الثلاثة في الطريقة، اليومية والدائمة وحلقة الذكر، إضافة إلى إدخاله لأورادٍ وقتية. كما مَنَّ الله على شيخنا بذكر عظيم خاص هو «حزب الواو».
1-12 الأوراد الدائمة
كان عدد الأوراد الدائمة في عهد الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان تسعة عشر وِرْداً، وكان كل وِرْد يُقرأ اثنان وثمانين ألف مرة، باستثناء ذكر «يا ودود» الذي كان يُقرأ خمس وستون ألف مرة. وأدخل الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد تغييرين على الأوراد الدائمة للطريقة. فبعد خروجه من خلوته الأولى، أي بعد حوالي سبعة أشهر من استلامه لمشيخة الطريقة، قام أستاذنا بتغيير هذه الأعداد فأصبح كل وِرْد من هذه الأوراد يُقرأ مئة ألف مرة. ويُشار إلى هذا العدد في الطريقة الكَسْنَزانيّة بتعبير «خَتْمة».
أما التغيير الثاني فهو استبداله في منتصف عام 1996 للذكر الحادي عشر من الأذكار التسعة عشر «اللّهم صلِّ على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليما» بصيغة جديدة من الصلاة على النبي ﷺ بلّغه بها مشايخ الطريقة هي «الصلاة الوصفية»: «اللهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّد الوَصْفِ والوَحْيِ والرِسالَةِ والحِكْمَةِ وعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلِّمْ تَسْليما».
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان خلال بناء التكية الرئيسة في بغداد (1981).
2-12 الأوراد اليومية
زاد شيخنا في الأوراد اليومية وغيّر أعداد بعض الأذكار التي ورثها من الشيخ عبد الكريم، وسنذكر هنا بعض هذه التغييرات.
في ثمانينيّات القرن الماضي، أضاف شيخنا إلى الأوراد اليومية تلاوة سورة الإخلاص مع البسملة 200 مرة. ولما كانت هذه السورة تتكون من أربع آيات، فإن قراءتها مع البسملة 200 مرة في اليوم الواحد تعادل قراءة ألف آية كل يوم. وهذا يذكّر بحديث الرسول ﷺ: «مَنْ قَرَأَ ألفَ آيةٍ في سبيلِ الله كَتَبَهُ اللهُ مع النَبيّينَ والصِدّيقينَ والشُهَداء والصالِحين».[1]
وفي بداية التسعينيّات أدخل شيخنا قراءة الذكر التالي ثلاث مراتٍ بعد كل واحدة من الصلوات الخمس المفروضة: «اللهُ حاضري، اللهُ ناظري، اللهُ شاهدٌ عَلَي، اللهُ مَعي؛ اللهُ مُعيني، وهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ مُحيط». وهذا من ورد للشيخ عبد القادر الگيلاني تلقّاه من الشيخ معروف الكرخي. ويقول أستاذنا بأن هذا الذكر يجسّد الإحسان،[2] ثالث أركان الدين، الذي وصفه النبي ﷺ بقوله «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».[3] ولا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة من الوعي بالله إلا عن طريق الكشوفات الربانية التي تقرّب الإنسان من عالم الروح وهو في الحياة الدنيا.
وفي الشهر الثالث من عام 2016 أضاف شيخنا قراءة الذكر التالي مرة واحدة بعد كل صلاة: «أستغفر الله الذي لا إِلَهَ إِلَّا هو، الرحمن الرحيم، الحيُّ القَيّوم الذي لا يموت، وأتوب إليه، ربِّ اغفر لي». كما كانت صيغة الاستغفار في الأوراد اليومية هي «أسْتَغْفِرُ اللَّـهَ» قبل أن يضيف اسم الله «العَظيم» إليها لتصبح «أسْتَغْفِرُ اللَّـهَ العَظيم». وأضاف شيخنا ذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» بعدد 165 بعد صلاة الظهر والعصر والمغرب.
وأدخل شيخنا ثلاثة تغييرات على «وِرْد العصر» الذي يُقام ساعة واحدة قبل صلاة المغرب. إن ورد العصر هو هديّة من الشيخ عبد القادِر الگيلاني إلى مشايخ الطريقة الكَسْنَزانيّة تبلّغ به الشيخ عبد القادِر الكَسْنَزان قبل انتقاله إلى عالم الروح بفترة قصيرة، فوجّه بأن يدخل وِرْد العصر أوراد الطريقة في عصر خليفته، الشيخ حُسَين. كان هذا الوِرْد في زمن السلطان حُسَين يتكون من تسعة أذكار يُقرأ كلٌ منها 33 مرّة، ولم يدخل الشيخ عبد الكريم أي تغيير عليه. ولكن بعد فترة من استلامه لمشيخة الطريقة، زاد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد عدد قراءة أذكاره من 33 إلى 50، ثم زاد العدد ثانية إلى 66 في عام 2005 أو 2006. وفي بداية شهر تشرين الأول من عام 2010 أضاف إلى نهاية الوِرْد «يا أرحم الراحمين»، الذي وصفه بأنه «دعاء»، تمييزاً له عن الأذكار التسعة.
وفي ليلة الأحد 28 كانون الثاني 2018، وبعد إقامة احتفال بولادة النبي ﷺ بمناسبة عودة الشيخ نهرو من الولايات المتحدة الأمريكية، أوعز أستاذنا بالقيام بذكر العصر. وإقامة وِرْد العصر ليلاً هو أمر نادر، إن لم يكن غير مسبوق. وبعد أن أنتهى الذاكرون من الذكر الأخير، «يا رَحيم»، بدأ شيخنا بذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» 100 مرة، وأطلَقَ على هذا الذكر الإضافي إلى وِرْد العصر تسمية «ذكر النصر». أما دعاء «يا أرحم الراحمين» فيمكن للمريد إن أراد قراءته بما شاء من عدد بعد «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه».
وسيراً على نهج الشيخ حُسَين والشيخ عبد الكريم، كان الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد غالباً ما يحضر وِرْد العصر. وحتى حين كان شيخنا في شغل خارج التكية، مثلاً في السيارة، فإنه كان يقيم وِرْد العصر بشكل فردي.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في حلقة الذكر في بداية بناء التكية الرئيسة في البصرة (1992).
3-12 الصلاة على النبي ﷺ
كان أحد الأذكار التي استحدثها شيخنا في ثمانينيّات القرن الماضي صيغةَ صلاةٍ على النبي ﷺ. ويشير شيخنا إليها في حديثه التالي عن الصلاة على النبي ﷺ بشكل عام في عام 2013 في عمّان:
«لدينا في طريقتنا العَلِيّة القادِريّة الكَسْنَزانِيّة أعظم ختمة، وهي «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه، مُحَمَّد رسول الله، صلّى الله تعالى عليه وسلم». انظر إلى العظمة التي أعطاها الله لحضرة الرسول ﷺ، فبعد التوحيد يأتي تكريم الرسول ﷺ، الصلوات على حضرة الرسول ﷺ، وأمَرَنا بهذا: ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب/٥٦). أعطانا هدية؛ الصلوات هدية، الصلوات رحمة، الصلوات بركة، الصلوات كنز، الصلوات رزق، الصلوات هي الدنيا والقيامة، الصلوات هي الجنّة، الصلوات نور، الصلوات تقرّب إلى الله وإلى حضرة الرسول: «وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا. وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا».[4] فعندما تصلّي على حضرة الرسول ﷺ، فإنك تتقرّب إلى الله. فنحن لدينا هذه الختمة، أكبر ختمة في التصوف الإسلامي، أكبر ختمة في الإسلام، أكبر ختمة في طريقتنا. من يريد أن يجرّب، فليجرّب. لا توجد هذه الختمة في بقية الطُرُق، فابحثوا إذا شئتم! أنا لدي ربما آلاف من كتب التصوف، فليس لدى شيخ هذه الختمة سوى مشايخكم الكَسْنَزانِيين. هذا بأمر. والله، والله، والله، ذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه، مُحَمَّد رسول الله، صلّى الله تعالى عليه وسلم» هو بِأَمْر. أتاني هذا الأمر حين كنت في بغداد، لقد أبلغوني بهذا الذكر بِأَمْر. حتماً كل أمور الصوفيّة هي من الله سبحانه وتعالى إلى حضرة الرسول وإلى المشايخ».[5]
جعل شيخنا قراءة هذه الصلوات مئة مرّة جزءاً من الذكر اليوميّ بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العشاء. ثم أضاف في الشهر الأول من عام 2006 إلى هذا الذكر عبارة «في كل لمحةٍ ونَفَس، عدد ما وَسِعَهُ عِلمُ اللَّـه» فأصبحت صيغة الصلاة هي «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه مُحَمّدٌ رَسولُ اللَّـهِ صَلّى اللَّـهُ تَعالى عَلَيهِ وسَلَّمْ، في كل لمحةٍ ونَفَس، عدد ما وَسِعَهُ عِلمُ اللَّـه».
وفي عصر يوم في الشهر السابع من عام 1996، حين خرج شيخنا من غرفة استراحته بلّغ الدراويش بأنه قد شُرِّفَ بصلاة جديدة على الرسول ﷺ لم تُعْطَ إلى أحد من قبل هذا نصّها: «اللهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّد الوَصْفِ والوَحْيِ والرِسالَةِ والحِكْمَةِ وعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلِّمْ تَسْليما». وَوَصَفَ الصلاة الوَصفيّة في حينها بأنها «خاتمة الصلوات الكَسْنَزانِيّة». كما أن مما وصفها به هي أنها من «تأليف» الرسول ﷺ:
«هذه الصلوات ليست من عندي، وإنّما بَلّغوني بها. فانظر كم مباركة هي الصلوات الوصفيّة. إنها منه، من النور، من حضرة الرسول ﷺ. ففي الماضي لم تكن لدينا هذه الصلوات. فهذه الصلوات مباركة جداً، لأنها منه، هو الذي بلّغنا، ولذلك نحن نقرأها باستمرار. لم تكن هذه الصلوات موجودة في أي كتاب من قبل. فهي منه، من حضرة الرسول، هو بّلغ، فبلّغنا… كم جميلة ومباركة هي، هو بنفسه منح هذه الصلوات، هي من تأليفه. كم جميلة هي. مهما فكّرت فلن تحيط بحدود بركة الصلوات الوصفية. لأنها برغبته، بأمره، وبأمر الله سبحانه وتعالى».[6]
وأضاف شيخنا مئة مرة من الصلاة الوصفية إلى الذكر اليومي بعد صلاة العشاء. كما حلّت الصلاة الوصفية محل صلاة «اللهُمَّ صلِّ على سيِّدنا محمّد وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلِّم تسليما» في الأوراد الدائمة واليومية.
وبسبب القوة الروحية الخاصة للصلاة الوصفية كان يأمر الدراويش أحياناً في ظروف معيّنة بأن يقوموا بختمة منها. فقبل تلقّيه للصلاة الوصفية، كان شيخنا يوجّه المريدين في مثل هذه الحالات بقراءة الصلاة المعروفة بالصلاة «النارية» أو «التفريجيّة»:
«اللهمَّ صلِّ صلاةً كاملة، وسلِّم سلاماً تامّاً على سيّدنا مُحَمَّد الذي تنحَلُّ به العُقَد، وتنفرِجُ به الكُرَب، وتُقضى به الحوائِج، وتُنالُ بِهِ الرغائِب، وحُسنُ الخواتِم، ويُستِسقى الغَمامُ بوجهِهِ الكريم، وعلى آلِهِ وصحبِهِ، في كلِّ لمحةٍ ونفسٍ، بعددِ كلِّ معلومٍ لكَ».[7]
ولكن الصلاة الوصفية حلّت محلها.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في ورد العصر في حوش تكية عمان، الأردن (15 تشرين الأول 2016).
كان شيخنا يكثر من التذكير بالآية الكريمة ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب/56) وبالأحاديث الشريفة في فضل الصلاة على الرسول ﷺ كقوله: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا». ومن أقواله في عظمة الصلاة على النبي ﷺ: «لا يعرف أسرار الصلاة سوى الله والرسول ﷺ والراسخون في علم الروح».
ويؤكّد شيخنا بأن الصلوات على النبي ﷺ تحل مختلف المشاكل، ولذلك كثيراً ما ينصح الدراويش الذين يخبرونه عن صعوبات ومشاكل لديهم بأن يُكثِروا من الصلاة على الرسول ﷺ. كما كان يؤكّد على أن أي دُعاء يجب أن يُسبَق ويُتَخَلَّل ويُختَم بالصلاة لكي يُستَجاب، أي يجب «تغليف» الدعاء بالصلاة على النبي ﷺ.[9] وهو دائم الحديث في مواعظه عن خصوصيّة الصلاة على النبي ﷺ، كما في هذه الموعظة:
«أكثروا من الصلوات على حضرة الرسول، لأن الصلوات نور للمريد يوم القيامة. هي صفة الله سبحانه وتعالى. الله سبحانه وتعالى يقول لك يا مريد — أنظر كيف يحب الله عباده، كيف يعطيه أفضل شي، أعز شي للمريد — يقول: ﴿إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. الصلاة والسلام عليك يا رسول الله. فأكثروا من الصلوات على حضرة الرسول، بالصلوات على الرسول تحصلون على محبة الرسول. إن فاتحة الدعاء هي الصلاة على الرسول، لا يُستَجابُ لأي دعاءٍ من عبدٍ إلا بأن يصلي على حضرة الرسول في أول الدعاء وفي آخره، فبين الصلاتين إن شاء الله يكون الدعاء مستجاب. حافظوا على اورادكم، على طريقتكم، وعلى أذكاركم، وعلى الأخص الصلوات على حضرة الرسول».[10]
وكما ذكرنا، جمع الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد أيضاً عدداً من صيغ الصلاة على رسول الله ﷺ في كتاب عنوانه «الصلوات الكَسْنَزانيّة» نشره عام 1990. وبقي جمع صيغ الصلوات على النبي ﷺ مشروع مستمر لشيخنا حتى انتقاله إلى عالم الروح.
إن حبّ شيخنا للرسول ﷺ لا مثيل له، وهو حب تظهر آثاره على كلامه، ووجهه، وحركاته، وأفعاله. وترى علامات ذلك الهُيام عليه متى ما ذُكِرَ اسم سيدنا مُحَمَّد ﷺ أو أحد ألقابه أمامه، وغالباً ما يتجسّد ذلك الحبّ دمعاً وبكاءً. وهذا أمر شهده كل من حضر مجالس شيخنا الإرشادية أو جلسات المديح. بل تُرى علامات هذا الحب اللامتناهي للنبي ﷺ تظهر عليه حتى حين يُذكَر أمامه عَرَضاً وفي أي وقت وحال. وأذكر مثالاً من أحد مجالس شيخنا الخاصة في عمّان حين كان مدير مكتبه الخليفة مُحَمَّد الكاتب يوماً يقرأ له عناوين مخطوطاتٍ في فهرس إحدى المكتبات ليطلب نسخة من تلك التي يريد الاطلاع عليه. فكان كلمّا ذكر الخليفة عنوان مخطوطة فيه اسم النبي ﷺ أو لقب له رفع شيخنا كفّه اليمنى المستندة على كرسّيه في إشارة سلام واحترام وكأنه يسلّم على حاضِرٍ مُشاهَد.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة إرشاد في تكية السليمانية، العراق (منتصف العقد الأول من القرن الحالي).
ويحضرني موقفٌ شخصيٌ أخر من آخر زياراتي له في فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، في نهاية تشرين الأول من عام 2019، حين كنت أتشرف بتناول العشاء على مائدته الكريمة. كان شيخنا يحب تجاذب أطراف الحديث مع ضيوف مائدته، فذكر أمراً جعلني أطرح موضوع مكانة من يمدح النبي ﷺ وحبّ مشايخنا لسماع مدح النبي ﷺ، وكان من الجالسين على المائدة مدّاح الطريقة مجيد حميد. فلما أراد شيخنا تأكيد ذلك وبدأ بالثناء على من يمدح رسول الله ﷺ بقول «مدّاح الحبيب»، هزّت العبرة جسمه الشريف ومنعته من إكمال قوله. فلما هدأ حاله وحاول الاستمرار بالكلام، هزّه الوجد ثانية وأوقفه لوهلة أخرى، قبل أن يتمكّن من إكمال كلامه. إني أُشِهِدُ الله بأني لم أرَ شيخنا يحب أحداً أو شيئاً مثلما كان يحبَّ النبي ﷺ، بل ولم أشهدَ حُبَّ مُحبِّ لمحبوبٍ مثل حُبِّه لحبيب الله ﷺ، وعنوان هذا الكتاب هو تعبيرٌ عن هذه الحقيقة.
كان عاشق النبي يحب أن يدعوه ﷺ بتعبير «الحبيب» وكان يؤكّد على أن حبّ الرسول ﷺ هو باب الوصول إلى الله سبحانه وتعالى:
كل ما تحدثّنا عنه مرتبطٌ بشيء واحد وهو محبة الحبيب ﷺ، لأن ﴿الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران/19). الإسلام يعني مُحَمَّد ﷺ؛ مُحَمَّد يعني الرحمة المُهداة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء/107). فمن يريد الرحمة فهي مُحَمَّد، ومن يريد الدين فهو مُحَمَّد، ومن يريد الآخرة فهي مُحَمَّد، ومن يريد القيامة فهي مُحَمَّد. هو شفيع المذنبين، سيّد المرسلين، سيّد الأنبياء والمرسلين، سيّد الأولياء والأنبياء.
إن محبّة الحبيب هي محبّة الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ﴾ (آل عمران/٣١). فافهموا بأن كل هذه الأمور مرتبطة بمحبة الحبيب. فبدون محبة الحبيب عملك لن ينجح. تستطيع أن تُنجِحَ عملك بتغليفه بمحبة الحبيب، بالصلواتِ على الحبيب ﷺ. فالصلوات على الحبيب تغلّف عبادتك، تنظف عبادتك، وتحولّها الى اللَّه سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾. فبالرحمة المُهداةَ في الإسلام تغلّف عبادتك. الصلاة على الحبيب ﷺ نورٌ يوصِل الإنسان الى اللَّه سبحانه وتعالى. فإذا كُتِبَت محبة الرسول على اللوح الموجود في القلب، فكل ما تعمل إن شاء اللَّه يصل. إذا لم يكن في قلبك محبة الحبيب، فليس في قلبك أية عبادة. فالأمور الدينية الإسلامية مرتبطة بالإيمان بالحبيب.[11]
لقد غدا شيخناً كلّه حبّاً للنبي ﷺ، ومن دلائل هذا الفناء وما أوصله إليه من مكانة روحية رفيعة أن النبي الكريم ﷺ شرّفه بفضل خاص حيث أضاف أحد ألقابه الشريفة إلى اسمه تمييزاً وإكراماً له، فغيّره من «مُحَمَّد» إلى «مُحَمَّد المُحَمَّد»، وهو فضل أعلنه شيخنا في 18 أيّار 2016. إن «مُحَمَّد المُحَمَّد» يعبّر عن اصطفاء النبي ﷺ لشيخنا، أي كأن الرسول ﷺ يصفه بأنه «مُحَمَّد الخاص بي» أو «مُحَمَّد الذي اصطفيته لنفسي».
وفي يوم 11 آب 2017، وكما هو روتينه اليومي، ترك الشيخ مجلسه في حوالي الساعة الواحدة صباحاً وذهب إلى غرفته الخاصة ليأخذ قسطاً من النوم حتى ما يقارب الثانية والنصف ليبدأ بعدها بعباداته. حين استيقظ اتصل بمساعده الشخصي، عيسى المزروعي، وطلب منه الحضور. فلما جاء، سأله عمّن كان في التكية، فأجاب عيسى بأن هنالك بعض الدراويش. فطلب منه أن يذهب إليهم ويخبرهم بأنه قد بُشِّرَ توّاً بأنه بمجرّد ما أن ينوي الشخص الصلاة على الرسول ﷺ ويجهز نفسه وسبحته لها، أي حتى قبل المباشرة بقراءة الصلاة، فإن الله تعالى يغفر له ذنوبه ببركة الرسول ﷺ.
ومما لاحظته في زياراتي الأخيرة له في عمّان في عامي 2018-2019 أنه حين كان يخبره دراويش عن مشاكل لديهم، فإنه لم يعد يصف لهم من الأذكار سوى الصلاة على النبي ﷺ ويتحدّث عما فيها من البركة.
ومن سلوكيّاته اليوميّة التي تنطق بفنائه في النبي ﷺ أنه كان حين ينزل من غرفته الخاصّة إلى مجلسه العام الذي يقابل فيه الدراويش والزوّار، كان يمرّ في طريقه إلى كرسيّه بسجّادة معلّقة على الحائط عليها نقش جميل جداً للقبة الخضراء والمسجد النبوي الشريف. كان يقف أمامها باحترام محنياً رأسه ليقرأ الفاتحة ويدعو قبل أن يذهب للجلوس إلى كرسيّه. كان هذا أول ما يقوم به حين يأتي إلى مجلسه.
في آخر فترة له في عمّان قبل سفرته الأخيرة إلى أمريكا، كان يقرأ كل حين وآخر الدعاء التالي الذي هو بيت شعر باللغة الكرديّة:
يا صاحِبَي مَدينَي مُنَوَّره بَفَرمو توْي مِنِي وْوَرا
وترجمته باللغة العربية:
يا صاحب المدينة المُنوَّرة تفضّل بالقولِ بأنَّكَ منّي فتعال
وهذه إشارة أخرى إلى فناء أستاذنا حُبّاً في الرسول ﷺ يصف فيها ذوبانه الروحي في أستاذه ﷺ ويطلب منه فيها أن يدعوه ليكون إلى جواره.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان وعلى يمينه الشيخ مُحَمَّد القره داغي خطيب الجامع الكبير في السليمانية في مولود للنبي ﷺ (الثمانينيات).
4-12 حلقة الذكر
وأدخل الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد عدداً من التغييرات على حلقة الذكر. فأصبحت الحلقة تبدأ بقراءة هذه الصلاة: «يا دائم الفضل على البريّة، يا باسط اليدين بالعطيّة، يا صاحِب المواهب السنيّة، صلِّ على مُحَمَّد خير البريّة، واغفر لنا يا ربنا في هذه العَشيّة». وتُنسَب هذه الصلاة، ولكن باختلاف بسيط في الصيغة، إلى الصحابي عبد الله بن عبّاس.[12]
كما غير صيغتي الاستمداد من النبي ﷺ والإمام علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) بأن أضاف إليهما كلاماً للشيخ محيي الدين ابن عربي.[13] فهذه هي صيغة الاستمداد من الرسول ﷺ. وتتكوّن هذه الإضافة من بداية «الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمين» إلى نهاية «المُبَرْقَعِ بالعَماء» وتتضمّن العديد من ألقابه ونعوته الروحية ﷺ:
«مَدَد يا سَيِّدَنا ونَبيَّنا وشَفيعَ ذُنوبِنا. يا صاحِبَ الآياتِ والمُعْجِزاتِ، ويا صاحِبَ دَلائلِ الخَيْراتِ وخَوارقِ العادات، ويا سَيِّدَ السادات، حَبيبَ رَبِّ العالَمين وخاتَمَ النَبيينَ وسَيِّدَ المُرسَلين. الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمين حَمْداً أزَليّا بِأَبدِيَّتِه وأَبَدِيّا بِأَزَليّتِه، سَرْمَدا بإطلاقِه، مُتَجلِّيا في مَرايا آفاقِه، حَمْدَ الحامِدين ودَهْرَ الداهرين. صَلواتُ اللَّـهِ ومَلائكَتِهِ وحَمَلَةِ عَرْشِهِ وجَميعِ خَلْقِهِ مِن أرضِهِ وسَمائِهِ على سَيِّدِنا ونَبيِّنا، أصْلِ الوُجود وعَيْنِ الشاهِدِ والمَشْهود، وأوَّل الأوائِل، وأدَلِّ الدَلائل، ومَبدَءِ الأنوارِ الأزليّ ومُنتَهى العُروجِ الكَمالِي، غايَةِ الغايات، المُتَعَيَّنِ بالنَشأت، أبِ الأكوانِ بفاعِلِيَّتِهِ وأمِّ الإمكانِ بقابِلِيَّتِه، المَثلِ الأعلى الإلهي، هَيُوليِّ العَوالِمِ غَيرِ المُتناهي، روحِ الأرواحِ ونورِ الأشباح، فالِقِ إصباحِ الغَيبِ ورافِعِ ظُلْمَةِ الريب، مُحتَدِ التِسعَةِ والتِسْعين، رَحمةٍ للعالَمين، سَيِّدِنا في الوجود، صاحِبِ لِواءِ الحَمْدِ والمَقامِ المَحْمود، المُبَرْقَعِ بالعَماء، حَبيبِ اللَّـهِ مُحَمَّد المُصطفى صَلّى اللَّـهُ تعالى عَلَيه وسلّم».
وفيما يلي صيغة الاستمداد من الإمام علي، وإضافة أستاذنا هي من بداية «وَعَلى سِرِّ الأسرارِ» إلى نهاية «إمامِ الأئمةِ»، وتتكوّن من ألقاب ونعوت روحية للإمام:
«مَدَد يا سَيِّدي وسَنَدي ومُرشِدي وتاجَ رَأسي ونورَ عيني، فارِسَ المَشارِقِ والمَغارِب، صاحِبَ مُظْهِرِ العَجائِبِ والغَرائِب، أسَدَ اللهِ الغالِب. وَعَلى سِرِّ الأسرارِ ومَشْرِقِ الأنْوار، المُهَنْدِسِ في الغُيوبِ اللاهوتِية. أُنموذَجِ الواقِعِ وشَخْصِ الإطلاقِ، المُنْطَبِعِ في مَرايا الأنفُسِ والآفاق، سِرِّ الأنبياءِ والمُرسَلين، سَيِّدِ الأوصِياءِ والصِدّيقين. الصورةِ الإلهية، مادّةِ العلومِ غيرِ المُتَناهية، الظاهِرِ البُرهان، الباطِنِ بالقَدْرِ والشَأن، بسملةِ كتابِ الوجود، حَقيقَةِ النُقْطَةِ البائيّة، المُتَحَقِّقِ بالمَراتِبِ الإنسانِية، حَيدَرِ آجامِ الإبداع، الكَرّارِ في مَعارِكِ الاختراع، السِرِّ الجَلي والنَجْمِ الثاقِب، إمامِ الأئمةِ، عَلي بن أبي طالب عَليهِ الصَلاةِ والسَلام».
وأصبحت حلقة الذكر تنتهي بقراءة هذه الصلاة: «اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وزِد وبارِك على النبي مُحَمَّد وآلِ مُحَمَّد سَيِّدِ الرِّجالِ المُفَضَّل، يا بَحْرَ الكَمالِ يا مُحَمَّد»، تليها الصلاة الوصفية. وتُختَم جلسات المديح والإرشاد أيضاً بهاتين الصلاتين.
دَرَجَ الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان على حضور الجزء الأخير من حلقة الذكر، وهو الجزء الذي ترافقه الطبلة والدفوف، وكان يقف لفترة قصيرة خارج الحلقة من دون أن يدخلها، قبل أن يذهب للجلوس على كرسيه أمام الحلقة بينما يستمر الدراويش في إكمال الذكر. أما شيخنا، فكان أيضاً يحضر جزء حلقة الذكر الذي يصاحبه ضرب الطبلة والدفوف، ولكنه كان يدخل وسط الحلقة. وحين سُأِلَ عن ذلك أجاب بأن الشيخ عبد الكريم كان يدري لِمَ لا يدخل الحلقة وأنه يدري لِمَ يدخلها.
وأثناء وجوده داخل الحلقة كان أستاذنا أحياناً يصحّح طريقة وقوف بعض الدراويش أو حركات ذكرهم. وحين يقارب الذكر على الانتهاء ويجلس الدراويش على الأرض، يترك شيخنا الحلقة ويذهب للجلوس على كرسيّه أمام الحلقة، حيث يزوره الدراويش بعد انتهاء الذكر، وقد يلقي موعظة، ثم تُقام وصلة مدائح.
وأحياناً يرفع أستاذنا خلال الذكر إحدى قدميه ويحرّكها قليلاً ليبقى مستنداً على قدمه الأخرى وعصاه، وهذه إشارة تواضع وتذلّل لمشايخ كِبار حين تحضر أرواحهم حلقة الذكر. وكما ذكرنا سابقاً، توقّف أستاذنا عن حضور حلقة الذكر بسبب حالته الصحيّة إلا في مناسبات خاصّة.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في مولود للنبي ﷺ (الثمانينيات).
5-12 الأوراد الوقتيّة
بالإضافة إلى أذكار الطريقة الثابتة، أي الدائمة واليومية وحلقة الذكر، فإن شيخنا يوجّه الدراويش أحياناً للقيام بأذكار وقتيّة معيّنة. وقد يكشف أسباب هذه الأوراد وقد لا يفصِح عنها. وغالباً ما يكون الذكر محدوداً بعدد معيّن، وإن كانت بعض الأوراد تنتهي بانتهاء فترة معيّنة أو حدث ما. وكثيراً ما يكون التوجيه بقراءة هذه الأوراد بدلاً عن الأوراد الدائمة، ليعود المريد بعد أن يكمل الأوراد الوقتيّة إلى إكمال الأوراد الدائمة حيث توقّف. وكمثال على الأذكار الوقتيّة، وجّه أستاذنا يوم 10 شباط 2017 بأن يقوم المريدون بقراءة ذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» مئة ألف مرّة وذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه مُحَمَّد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلّم» مئة وخمسة وثلاثون ألف مرّة، وأن يهدي المريد ثواب الذِّكرين إلى مشايخ الطريقة وأن تكون قراءتهما بنيّة تحقّق ما في قلب شيخنا من شأن.
6-12 الأوراد الفرديّة
أحياناً يصف أستاذنا ذكراً معيّناً لدرويش أو مجموعة من الدراويش لأمور خاصّة بالطريقة يعلمها هو. كما كان كثيراً ما يوجّه مريداً للقيام بذكر خاص بعدد معيّن أو لفترة معيّنة لحاجة يطلب فيها المريد مساعدته، كزيادة الرزق، أو صرف أذى، أو الشفاء من مرض، وغيرها من الحاجات الخاصة.
وأود أن أذكر هنا تجربة شخصية لي. ففي الشهر السادس من عام 2016 أخذت أشعر بعد السير لمدة عشرة دقائق تقريبا بشعور غريب غير مريح في القلب. كما كنت أشعر أحياناً بزيادة في ضربات القلب، خصوصاً عند تناول الطعام. وكان الخفقان أحياناً يشتد إلى درجة تجعلني أشعر وكأن قلبي يكاد أن يخرج من صدري. في الشهر التاسع من ذلك العام، كنت في زيارة أستاذنا في فرجينيا، وقبل توديعي له للعودة إلى بريطانيا حيث أسكن، أخبرته عن حالتي هذه، فسأل عن تفاصيلها، وكان لدي موعد مع أخصائي للقلب بعد ثلاثة أيام. فقال لي بأن لا أقلق وأن أقوم بختمة من ذكر «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» وإن شاء الله ستذهب تلك الحالة. ثم أضاف مستشهداً بحديثي النبي ﷺ «أفضل الذكر لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه»[14] و «من قالَ «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه» دخَلَ الجنّة»[15] والحديث القدسي «لا إِلهَ إِلَّا اللَّـه حُصني، فمن دخلَ حُصني أمِنَ من عذابي».[16] بعد عودتي، تم تشخيصي باضطراب في ضربات القلب وأوصاني الأخصائي بأن أراقب أي تطوّر في حالتي وأن أراجعه. ولكني قبل انتهائي من ختمة الذكر التي وجّه بها أستاذنا اختفت الحالة تماماً ولم أعد بحاجة لمراجعة الطبيب.
الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في زيارة إحدى تكايا الرمادي (26 كانون الأوّل 1991).
7-12 حزب الواو
إن الفرق بين الوِرْد والحزب، هو أن الأول هو ذكر يُقرَأ بشكل منتظم، مثلاً يوميا، بينما الحزب هو ذكر يقرأه الذاكر حين يشاء، مثلاً بِنيّةِ قضاء حاجةٍ ما. يقول شيخنا بأنه ورد على قلبه بأن كثير من المشايخ كانت لهم أحزاباً خاصة بهم ولكنه ليس له حزب، فمّن عليه الله عز وجل في عام 2013 بحزب خاص هو «حزب الواو». ووصفَ هذا الحزب بأنه «بأمر من الله إلى حضرة الرسول ﷺ، إلى المشايخ، والمشايخ بلّغوني به».[17] ويجمع هذا الحزب كل الآيات القرآنية التي تبدأ بحرف الواو، وعددها 2.128 آية، متسلسلة حسب ورودها في المصحف، فأولى الآيات هي ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (البقرة/4) وأُخراها هي ﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ (الفلق/5). وقد وصف شيخنا حزب الواو بأنه «شيء عظيم». ولا تجوز قراءه هذا الحزب الفريد إلا بإجازة منه. وأفضل وقت لقراءته هو الثلث الأخير من الليل، ويمكن للشخص أن يكمله في أكثر من ليلة.
[1] البيهقي، السنن الكبرى، ج 9، ح 18575، ص 291.
[2] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 22 كانون الثاني 2010؛ 4 آب 2013.
[3] البخاري، الجامع الصحيح، ج 1، ح 50، ص 65.
[4] هذ هو النص الكامل للحديث القدسي الذي نقله الرسول ﷺ عن رب العزّة: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي. فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي؛ وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا؛ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا؛ وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ح 7129، ص 693).
[5] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 12 أيلول 2013.
[6] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 1 أيّار 2018.
[7] النبهاني، أفضل الصلوات على سيّد السادات، ص 61؛ النازلي، خزينة الأسرار جليلة الأذكار، ص 183.
[8] مسلم، صحيح مُسلم، ج 1، ح 408، ص 306.
[9] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 3 تشرين الأوّل 2013.
[10] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 28 أيلول 2013.
[11] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 7 شباط 2013.
[12] النبهاني، سعادة الدارين في الصلاة على سيّد الكونين، ص 246-247؛ دعوة تشريفات مع الملأ الأعلى، ص 107.
[13] ورد هذا الكلام عن الشيخ ابن عربي في كتاب ملحقات الإحقاق للعلامة شهاب الدين المرعشي، الذي نقله بدوره عن الشيخ فضل الله بن روزبهان الإصبهاني في كتابه شرح صلوات چهارده معصوم – وسيلة الخادم إلى المخدوم، ص 293.
[14] الترمذي، الجامع الكبير، ج 5، ح 3383، ص 393.
[15] الطبراني، المعجم الكبير، ج 7، ح 6348، ص 55.
[16] المتّقي الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ج 1، ح 158، ص 52.
[17] الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، موعظة، 12 أيلول 2013.