مقدِّمة: المصادر والتوثيق​

مقدِّمة: المصادر والتوثيق​​

الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان في جلسة مدائح في تكية عمان، الأردن (9 آب 2013)

«الله تعالى هو حاضرٌ وناظرٌ وشاهدٌ، وهو ملكُ الملوك ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ (الأعراف/54). الله باقي، الله حيٌ لا يموت، ﴿إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة/156)، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران/185). نحن في كل يومٍ نقترب من الموت، لأنّ كل يوم يمضي يقرّب الأجل. فعلينا أن نغتم العمر في طاعة الله سبحانه وتعالى. ليس هنالك من يعيش إلى الأبد.

أحسنوا الظنَّ والاعتقاد بالله تعالى والزموا أوامره وانتهوا عمّا نهاكم. وفي منهجكم ما يدلّكم على التقرّب إلى الله. فحاسبوا أنفسكم دائماً وتناصحوا وتراشدوا وأحبّوا بعضكم في سبيل الله. وأكثروا من ذكره، وأكثروا من الصلاة على سيّدنا الرسول ﷺ. بارك الله فيكم. اللهُمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّد الوَصْفِ والوَحْيِ والرِسالَةِ والحِكْمَةِ وعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلِّمْ تَسْليما. ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (البقرة/201)».

السيّد الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسَيني (موعظة، 2 نيسان 2000)

هذا الكتاب مأخوذ بشكل رئيس من كتاب السيرة المُفصَّلة للشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان الحُسيني. من المهم أن أقدّم ذلك الكتاب أولاً قبل أن أتحدَّث عن الكتاب الحالي المُقتَبَس.
ظهرت لي الطبعة الأولى من أول سيرة لحضرة الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان قدّس الله سرّه العزيز، السَّيِّدُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ المُحَمَّد الكَسْنَزانُ الحُسَيْنِي: سِيرَةٌ على خُطَى خَيْرِ السِّيَر، في الشهر العاشر من عام 2018. ثم نُشِرَت طبعة ثانية مُنَقَّحة في الشهر الخامس عام 2019. في 4 تمّوز 2020، أختار الله شيخنا الجليل إلى جواره مع الذين أنعم عليهم من النبيّن والصدّيقين والشهداء والصالحين، بعد أن خدم شيخاً لطريقة جدّه ﷺ لمدة اثنتين وأربعين عاماً. وخَلَفَه الرجل الذي كان الشيخ قد أختاره شيخاً للطريقة بعده عقوداً قبل ذلك، نجله الأكبر، الشيخ شمس الدّين مُحَمَّد نهرو الكَسْنَزان.
لقد جمعتُ مادّة هذه السيرة من مصادر مختلفة. فقد استقيت فكر حضرة الشيخ وآراءه منه مباشرة، فحصرت مصادري في هذا المجال على محاضراته الإرشادية العامة التي أسعدني الحظ بحضورها أو بالحصول على تسجيلات فيديوية أو صوتية لها، وأحاديثه في مجالس خاصّة تكرَّم عليّ بفرصة حضورها، وكذلك كتاباته المنشورة. وعند استشهادي بكلام من محاضراته، قمت بتحويل النص من اللهجة العراقية إلى اللغة العربية الفصحى وتحريره، مع الحرص الشديد على الحفاظ على معنى الكلام دون تغيير.
أما تفاصيل حياة أستاذنا، وكذلك تاريخ من سبقه من المشايخ الكَسْنَزانِيّين، فبالإضافة إلى محاضراته الإرشادية وأحاديثه وكتاباته، فقد أخذتها من عدد من أقربائه والمريدين الذين رافقوه في مختلف مراحل حياته، قبل أن يصبح شيخاً للطريقة وبعدها. وأود أن أشكر على وجه الخصوص الشيخ سامان معروف، زوج أخت شيخنا وخال أولاده، ومن المريدين الذين عرفوا شيخنا عن قرب منذ طفولته الخليفة ياسين صوفي عبد الله، الذي كان من مريدين وخلفاء والده وأستاذ الطريقة قبله الشيخ عبد الكريم الكَسْنَزان. كما أود أن أشكر الخليفة عماد عبد الصمد الذي، إضافة إلى تزويدي ببعض مواد الكتاب، ساعدني في تسهيل جمع غيرها. وشاركت زوجتي الدكتورة شذى الدركزلّي بملاحظات قيّمة على مسودّة الكتاب ساعدتني على تحسينه، فلها شكري وامتناني.
لقد أمعنت في تدقيق التفاصيل التاريخية التي لم تصلني عن طريق شيخنا مباشرة. كما وجّهني أستاذنا بأن أكون دقيقاً بشكل خاص حين تفحّص الروايات عن كرامات مشايخ الطريقة، لتشخيص أية حادثة مزعومة لم تقع فعلاً ولكشف أية تفاصيل غير دقيقة في كرامات صحّ وقوعها، وطلب بأن استفسر منه أو من الشيخ سامان معروف عند الحاجة. فكثير من الحوادث وقعت قبل عشرات السنين، والذاكرة البشرية كثيراً ما تنسى بعض التفاصيل على مر الزمن، أو حتى تغيّرها بشكل غير مقصود. كما أن رواة بعض الوقائع لم يكونوا من شهودها ولكن ناقلين لما سمعوا عنها. لذلك توخّيت الحذر في جمع هذه الروايات وتدقيقها، وكثيرا ما ساعدني تعدّد المصادر على تمحيصها، فعزفت عن تدوين الروايات التي لم أستطع الوثوق من صحّتها. وأحياناً لم أتمكّن من التأكد من بعض تفاصيل واقعة ما، فوثّقتُ التفاصيل التي اطمأننت إلى دقّتها وتجاوزت غيرها.
خلال لقاءاتي مع مصادري وإنصاتي لهم أثناء جمعي لمادّة الكتاب، كان بيت الشعر الرائع التالي يتردّد بين الحين والآخر على بالي في تلك الجلسات الطويلة التي كان أستاذنا العظيم موضوع الحديث فيها:

وما جَلَسْتُ إلى قومٍ أحدِّثُهُم          إلا وأنتَ حَديثي بَينَ جُلّاسي

يصف الحلّاج الشهيد هنا انشغاله الكامل بالله عز وجل وحبّه له الذي ملك عليه عقله وقلبه وكلّ حواسّه حتى أصبح لا يحب الحدّيث إلا عن حبيبه. وذِكْر مشايخ الطريقة والصالحين وسيرهم هو تذكّر لله، لأن الذي مَيّزهم وجَعَلهُم محل اهتمام الناس هو حياة التقوى والعبادة التي عاشوها، إضافة إلى تكريسهم جلَّ وقتهم لتعليم مريدي القُرب من الله وحثّهم على العمل الصالح وأن يكونوا من أهل الخير لأنفسهم وللناس جميعاً.
يمنح القرب من الله كلَّ شيخ من مشايخ الطريقة بركة كبيرة وخاصّة تتجسّد في خوارق للعادات لا حصر لها، حتى تكون «الكرامات»، كما تُعرَف هذه الخوارق، المداد الذي يُكتَبُ به جزءٌ كبيرٌ من حياة الشيخ. فتلعب الكرامات دوراً رئيساً في حياته، فنجدها تحيط به حتى قبل أن يصبح أستاذ الطريقة، بل ومنها ما تشير إليه حتى قبل ولادته، تأكيداً على اصطفاء الله له لهذا الدور القيادي الروحي. وكذلك نرى الكرامات تتخلّل كل مراحل حياة الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، فمن الطبيعي أن هذه السيرة غنيّة بخوارق العادات.
ولا يمكن لأي كتاب مهما كَبُرَ أن يُلِمَّ بأكثر من عدد صغير جداً من هذه الكرامات، لأنها لا حصر لها ولكونها دائمة الحدوث، فلم نذكر من خوارق العادات إلا أمثلة تساعد في شرح السياقات المختلفة التي ترد فيها. ولا يمكن رواية سيرة شيخنا بشكل وافٍ من غير أن نتطرّق إلى أخبار وآثار وكرامات من سبقه من مشايخ الطريقة الكَسْنَزانِيّة، وإن اقتصرنا على ذكر قدرٍ يسير جداً من هذا التاريخ المبارك، بما يتناسب مع أهداف الكتاب ومواضيعه.
لقد قدّمتُ السيرة بأسلوبٍ فريد يرويها في سياق شرح المنهج الصوفي للوصول إلى الله سبحانه وتعالى وفي نفس الوقت يعرض الفكر الصوفي من خلال سرد سيرة شيخنا الجليل. فجعلتُ الكتاب شرحاً للتصوّف في عرضه لسيرة أستاذنا وعرضاً للسيرة المباركة في تعريفه بالتصوّف. فالكثير من المهتمّين بسيرة شيخنا يهمّهم أيضاً تعريفها بمفاهيم وممارسات التصوّف بشكل عام، خصوصاً إذا لم يكونوا من المطّلعين على الفكر الصوفي. وهذا العرض التكامُلي لسيرة شيخ صوفي وفكره ممكنٌ لأن حياته جسَّدت عقيدته.
ولكن بين القراء من يفضّل الاطّلاع على السيرة ومفاهيم التصوّف كلٍ على حدة ليتاح له التركيز على واحد منهما عند القراءة. لذلك قرّرت أن استخرج من كتاب السيرة الكبير ذلك كتابين متوسطي الحجم يركّز أحدهما على سيرة الشيخ مُحَمَّد المُحَمَّد الكَسْنَزان، وهو هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم. أما الكتاب الثاني فيعني بالتصوّف في الطريقة العَلِيّة القادِريّة الكَسْنَزانيّة. وقد تجنّبت قدر ما استطعت أي تكرار بين الكتابين إلا ما وجدت ضرورة ذكره في الدراستين. ولضمان شمول هذين الكتابين لكل مواضيع المصدر الأصلي، فقد كتبتهما في نفس الوقت. وتطلّب هذا أيضاً إعادة ترتيب المادة الأصلية وإعادة كتابة بعضها. وأغتنمت هذه الفرصة لأضيف إلى كلي الكتابين محتويات جديدة لم أضعها في الكتاب المصدر.
لقد اختصرت بشكل كبير فصل نشاطات شيخنا في الحركة الكردية وفصل الاضطهاد الذي تعرَّضت له الطريقة من قبل النظام العراقي في التسعينيّات. كان من الضرورة توثيق تفاصيل الكثير من حوادث هذين الموضوعين في كتاب السيرة الأصلي ليكونا مصدراً للمؤرخين، ولكن معظم هذه التفاصيل ليست مثار اهتمام من ليس له اهتمام خاص بتاريخ تلك الحقبتين. لذلك فإن الفصلين المختصرين في هذا الكتاب تشمل من تلك الحقبتين فقط ما له علاقة بحياة الشيخ وبالطريقة.
أما الكتاب الأول، فعنوانه حَياةٌ وفَناءٌ في حُبِّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ: سِيرةُ السَيّدِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ المُحَمَّدِ الكَسْنَزان. ويركّز على سيرة الشيخ. ويشرح الكتاب الثاني المنهج الصوفي وفقاً للطريقة الكَسْنَزانيّة، وعنوانه هو التَصَوّفُ في الطَّريقَةِ العَلِيَّةِ القادِرِيَّةِ الكَسْنَزانِيَّةِ: مَنْهَجٌ تَطْبيقِيٌّ للجانِبِ الرّوحِيِّ للإسلامِ. فالكتاب الذي يدي القارئ الكريم هو كتاب السيرة.